الأربعاء، 15 أبريل 2009

ما بين الفعل وحرف الجر




إعادات رؤية في النحو العربي (1)



ما بين الفعل وحرف الجر في اللغة العربية:

الأفعــال الحَــرفية




الرَّيَّح عبد القادر عثمان



















القسم الأول

استهلال

هل ينحصر دور حروف الجر في "الجر"، أم أنه يتجاوز مجرد "العمل" النحوي، ليدخل في مجال "الوظيفة" الدلالية؟

هل ثمة ما يجب فهمه حول الفعل أكثر من اشتقاقه وتصريفه وإعرابه ومعانيه؟

هل لحرف الجر القدرة على تغيير دلالة الفعل القاموسية وإكسابه دلالة مغايرة؟ في حال الإيجاب: ما حجم هذه الظاهرة وما مقدار أهميتها؟ وكيف ينبغي التعامل معها وفيمَ تفيد دراستها؟

وهل تمثل هذه العلاقة الدلالية بين حرف الجر والفعل وجهاً من أوجه التشابه في السلوك التركيبي-الدلالي بين الفعل في اللغة العربية ونظيره في اللغة الإنجليزية، التي تعرف ما يسمى بـظاهرة "أفعال العُبَيْرة" (phrasal verbs)؟

عندما نقول: "قام شخص بزيارة"، بمعنى أدى وفعل، هل الدال على حدث الزيارة، من منطق الدلالة، هو الفعل "قام" وحده أم أن ذلك المعنى لا يتحقق إلا بمشاركة حرف الجر "بـ"؟ بعبارة أخرى: هل الفعل "قام" وحرف الجار "بـ" يشكلان، معاً، دالاً واحداً مركباً من وحدتين (قام + بـ) للدلالة على مدلول واحد (حدث الزيارة)؟
هل يوجد فرق دلالي بين "زار" و"قام بزيارة"؟
وهل ثمة فرقٌ أساسي في البنية الدلالية بين "قام بـه " و "قام له"؟


***

يزعم هذا البحث المتواضع بأن النحو العربي، قديماً وحديثاً، أجمل الحديث في الحرف بإخلال، ولم يتوسع في تعريفه وتوضيح فئاته وتقصي الدور الوظيفي الذي يلعبه؛

وأن الفعل يتضمن قيماً دلالية في "التزمين" و"الإيعاب" و"الإفعال" وفي العلاقات "السياقية الجوارية" لم تنلْ حظها من عناية النحو العربي؛

وأن حرف الجر يتحد في أحيانٍ كثيرة مع الفعل ليشكلا معاً دالاً مركباً واحداً جديداً، له مدلول جديد غير ذلك الذي يؤديه الفعل منفرداً؛

بتعبير آخر، أن لحرف الجر "عملاً"، من المنظور النحوي، يتعلق بالاسم، كما أن له وظيفة، من منظور علم الدلالة، تتعلق بالفعل؛

وأن هذه الظاهرة تشبه إلى حد كبير ظاهرة أفعال العُبيرة المعروفة في اللغة الإنجليزية، مع وجود اختلافات كبيرة؛

وأن عبارتي "قام به " و "قام له"، رغم اتفاقهما التام من حيث تركيبهما النحوي، تختلفان اختلافاً جوهرياً من حيث بنيتهما الدلالية: فـفي قولنا "قام بالشيء" يكون حرف الجر، الباء، جزءاً لا يتجزأ من دال واحد، "فعلي-حرفي"، يشير إلى حدث غير حدث الاعتدال أو الوقوف الذي يدل عليه الفعل "قام" وحده، ذلك الحدث هو: الأداء أو الإنجاز أو الاضطلاع بالشيء؛ أما حرف الجر، اللام، في "قام له"، بمعنى وقف أو اعتدل من أجله أو احتراماً له، فإن علاقته بالفعل علاقة مجاورة سياقية (مُسايقة) مستقلة ، ليس من شأنها أن تصرف معنى الفعل "قام" عن الدلالة على الوقوف/الاعتدال؛ فالعلاقة بين الفعل ولام الجر هنا، على نقيضِ تلك الكائنة بين الفعل وباء الجر هناك، ليست علاقة اندماج دلالي، بل هي علاقة دالين متجاورين - لكنهما مستقلان - يربطهما سياق نصي واحد، ويساهمان، كل على حدة، في التركيب النحوي لذلك السياق (الإسناد، التعدية غير المباشرة، الجر الواقع على الاسم) وفي الدلالة التي ينطوي عليها (ما فهمناه من أن القيام كان من أجل الشخص الآخر أو بسببه).

ولمزيد من توضيح الفكرة، منذ هذا الاستهلال، دعونا ننظر إلى (أم ننظر في؟)[1] معاني الفعل "عرض" كما جاءت في مختار الصحاح:
"عَرَضَ له كذا أي ظهر، و عَرَضْتُهُ له أظهرته له وأبرزته إليه، يقال عَرَضْتُ له ثوبا مكان حقه وثوبا من حقه بمعنى واحد؛ و عَرَضَ البعير على الحوض وهو من المقلوب والمعنى الحوض على البعير؛ وعَرَضَ الجارية على البيع؛ وعرض الكتاب؛ وعرض الجند إذا أمرَّهم عليه ونظر ما حالهم؛...و عَرَضَهُ عارِضٌ من الحمى ونحوها؛ و عَرَضَهُم على السيف قتلا؛ كل ذلك من باب ضرب؛ و المِعْرَضُ بوزن المبضع ثياب تجلى فيها الجواري...".

يمكننا، من خلال المعجم ورصد الاستعمال الجاري، تقديم دوال الفعل "عرض" (شجرة دواله) على النحو التالي:

أولاً: الدوال الفعلية العامة (البسيطة):
1/ عرضَ: عرضه = وضعه بعرضه؛ عرض = بدا وظهر؛ أظهر، ومنه قوله تعالي: "وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرض[2]اً". يدل ذلك على أن عبارة "عرض له المشروع" لا تساوي "عرض عليه المشروع" وأنها تعني الكشف والإظهار بغرض الإعلام والإفهام، ولا تعني، بدلالة ألفاظها، التسويق أو طلب الاستحسان أو محاولة الإقناع بالمشروع المذكور؛

ثانياً: الدوال الفعلية الاصطلاحية (المركبة):
أ. الأفعال الحرفية:
1/ عَرَضَ لِـ :
أ‌) عَرَضَ له (عَرْضاً) = ظهر، بدا له
= أظهر وأبرز، ومنه: "وعَرَضْنا جهنم يومئذ للكافرين عَرْضاً"، قال الفراء: أَبرزناها حتـى نظر إِلـيها الكفار. لسان العرب ج 7 ص 185.
ب‌) عرض للموضوع = تطرق إليه، تحدث فيه
ت‌) عرض له شك أو ما شابهه
ث‌) عُرِضَ له (عَرَضاً) = أصابه مسٌّ من الجن. وفـي حديث خديجة رضي الله عنها: "أَخاف أَن يكون عُرِضَ له" أَي عَرَضَ له الـجنّ وأَصابَه منهم مَسٌّ. لسان العرب ج 7 ص 184.
ج‌) عَرَضَ له (عَرَضاً) عارِضٌ من الـحُمَّى وغَيرها وعرض له أمر فأخَّره = حدث له. قال الأَصمعي: العَرَضُ الأَمر يَعْرِضُ للرجل يُبْتَلـى به؛ قال اللـحيانـي: و العَرَضُ ما عَرَضَ للإِنسان من أَمر يَحْبِسُه من مَرَضٍ أَو لُصُوصٍ. لسان العرب ج 7 ص 169
ح‌) عَرَضَ لك الـخيرُ (يَعْرِضُ عُروضا)= أشرف؛ ومعناه أيضا: تسنى لك، أمكنك فعله
خ‌) عرض له اللصوصُ = تعرَّضوا له
د‌) عرض للرجل = شتمه وآذاه؛
ذ‌) عرضَ له الفرسَ عرضاً = اعترض به طريقه. ومنه حديث سُراقة: أَنه عَرَضَ لرسول الله وأَبـي بكر الفَرسَ أَي اعْتَرَضَ به الطرِيقَ يَمْنعُهُما من الـمَسِير. لسان العرب ج 7 ص 167

2/ عرض على
أ‌) عَرَضَ الشيءَ علـيه يَعْرِضُه عَرْضاً = أَراهُ إِيّاه
ب‌) عرض عليه شيئاً أو أمراً (وظيفة...الخ) = اقترحه عليه
ت‌) عرض عليه جواداً = سامه إياه
ث‌) عرض المسألة عليه = أحالها إليه طالباً رأيه.
ومن هذا المعنى: الـمَعْرِضُ، وهو الـمَكانُ الذي يُعْرَضُ فـيه الشيءُ؛ والـمِعْرَضُ: الثوب تُعْرَضُ فـيه الـجارية وتُـجَلَّـى فـيه، والأَلفاظ مَعارِيضُ الـمَعانـي، من ذلك، لأَنها تُـجَمِّلُها. لسان العرب ج 7 ص 182.
وتجب ملاحظة أن الفعل "عرض" المصحوب بحرف الجر "على" يحمل معنىً "إيجابيا" يشير إلى عرضٍ هدفُه نيل الاستحسان وما إليه (كما في الآية الكريمة: "عُرِضَ عليه بالعشي الصافنات الجياد" سورة ص، 30) ، بعكس "عرض لـ" الذي يحمل معنىً "محايداً"؛ ولذلك فإن "على" لا يمكن أن تحل محل اللام في الآية الكريمة: "وعرضنا جهنم يومئذٍ للكافرين عرضاً" (الكهف، 100).

3/ عرض من = قايض: عَرَضَ من سلعته: عارَضَ بها فأَعْطَى سِلْعَةً وأَخذ أُخرى. ومنه قولهم "عَرَضْتُ له من حَقِّه" بمعنى البدل، وقولهم "نـحن نَعْرِضُ منه فاعْتَرِضُوا منه" أَي اقْبَلُوا الدية. لسان العرب ج 7 ص 168

4/ عرض بـ : عرض به = تكلم عنه مستخدماً التورية وهو يعنيه؛

5/ عرض لـ ...بـ : عرضَ له به = أعطاه إياه مكان حقه


ب. أفعال العبارة:
1/ عرض الجند = مصطلح عسكري قديم، لا ينطبق، بالكيفية الموصوفة، على مصطلح "عرض عسكري" الحديث. ويجب هنا ملاحظة أن الفعل "عرض" لا يحمل هذا المعنى الاصطلاحي العسكري منفرداً، بل حين يكون مصحوباً بملازمه الضروري "جند"، (هذا "الملازم" سندرج على تسميته لأغراض هذا البحث "المسايق")[3]؛ وبهذا فإن القيمة والهوية الاصطلاحية تكمنان في المفردتين حال ترافقهما، وتنأى عنهما حال افتراقهما (*عرض الطلاب/ *عــرَّض الجند). ويجب أيضاً ملاحظة أن حرف الجر "على" في قولنا "عرض الجند على الأمير" لا يماثل في وظيفته الدلالية حرف الجر "على" في "عرض عليه المشروع"، إذ أن المعنى الاصطلاحي لـ "عرض الجند" قد تم بوجود الفعل والاسم، دون الحاجة إلى الحرف، الذي يلعب بالتالي دوراً نحوياً ودلالياً منفصلاً (التعدية غير المباشرة، إذا جاز التعبير). أما "على" في "عرض عليه المشروع"، فإن وجودها ضروري لبيان نوع "العرض"، فإذا اكتفينا بـ "عرض المشروع" لم ندر أعرضه له أم عليه، والفرق بين "عرض له" و"عرض عليه" إن هذه الأخيرة تنطوي على توقع الاستحسان أو القبول أو الشراء كما أسلفنا.
2/ عرض على السيف = قتلهم (لا يقال: "*عرضهم على السهم/الرمح"، كما لا يتأتى المعنى نفسه لو قلنا: "عرضهم للسيف*").
3/ عرضهم على السوط = ضربهم به (لم نسمع بـ "عرضهم على العصا*")
4/ عرضهم على النار = أحرقهم بها
5/ عرض على البيع (في اللغة القديمة) أو للبيع (في اللغة الحديثة)
ملاحظة: لا ينبغي توهّم التماثل فيما بين (2) و (3) و(4): فأولاهما تشير إلى القتل والثانية إلى التأديب والثالثة إلى التعذيب.

وهكذا رأينا كيف انتقل الفعل "عرض" من معنى الإظهار الحقيقي في "عرضنا جهنم"، إلى معنى الظهور المفاجئ أو الحدوث الطارئ "عرضت له مشكلة فتأخر عن الموعد"، مروراً بمعنى التطرق إلى الموضوع، ومعنى الإظهار "التسويقي" - إذا جاز التعبير- المقصود به الإقناع، ثم الإظهار بكيفية محددة "تقنياً" في المصطلح العسكري "عرض الجند"، وأخيراً ورود الفعل "عرض" ضمن عبارة مكونة من ثلاث مفردات بعينها تحمل دلالة اصطلاحية مجازية محددة. ولقد رأينا كيف لعب حرف الجر دوراً أساسياً في انتقال المعنى: فاللام في "عرضنا...للكافرين" لا دور لها في تحديد المعنى، إذ هي تعلب دور الأداة المستقلة التي تربط بين الفعل ومسايقه. أما اللام في "عرض له أمر فتأخر" فهي لم تكتف بكونها أداة إسناد بين الفعل والمسايق، بل أصبحت جزءاً من "دال فعلي" جديد لمدلول جديد. بناء على ذلك، يكون باب "ع ر ض" يحتوي على شجرة دلالية تتكون مما أقله اثنا عشر دالاً فعليا ومثلها من المدلولات:
1. فعل بسيط بدلالة عامة: عرض؛
2. عبارة مصطلحية متخصصة: عرضَ الجندَ؛ عرض على البيع/ للبيع
3. عبارة اصطلاحية مجازية: عرضهم على السيف/النار/السوط
4. فعل حرفي 1: عرض له أمر
5. فعل حرفي 2: عرض لـلأمر
6. فعل حرفي 3: عرض على
7. فعل حرفي 4: عرض بـ
8. فعل حرفي 5: عرض من
9. فعل حرفي 6: عرض لـ ...بـِ

هذا ما رأيناه في الفعل "عرض"، ومثله كم كثيف من الأفعال الحرفية تعج به لغة الضاد القديمة والحديثة[4]:
قام بـ/ قام على
اهتم بـ (من الاهتمام) / اهتم لـ (من الهم)
أشار إلى (أومأ)/ أشار على بـ (نصح)
اتفق مع/ اتفق لـ
عرف له به = أقر
عرف له = جازاه
وقف في/ وقف على/ وقف لـ/ وقف من/ وقف دون
أتى على / أتى بـ
تردد في / تردد إلى (مكان) / تردد على (شخص)
رد على / رد إلى
قصد إلى / قصد في
أكد / أكد على (شدد)
عطف على/ عطف إلى
رسا (في أو عند: السفينة)/ رسا على (المناقصة)
سهر (الليل)/ سهر على
أخذ على/ أخذ عن / أخذ بـ/ أخذ في
اعتمده / اعتمد عليه
تعرَّف على/ تعرَّف إلى
عاد لـ / عاد إلى
أثّر عليه (مارس عليه نفوذاً) /أثر في (فيزيائياً، نفسيا، عاطفياًً...الخ)
كشف عن (خطة)/ كشف على (مريض)
وصل بـ (وصلاً) / وصل إلى (وصولاً)
رغب في/ رغب عن/ رغب إلى/ رغب بـ...عن
قال عن/ قال في / قال على/ قال بـ
عمل بـ (القانون)/ عمل على (إجازة القانون)...الخ


ويجب هنا ملاحظة أن استخدامنا تسميتي "فعل حرفي = فعل عُبَيْرة" في مقابل " فعل عبارة " قصدنا منه أن يشير إلى اختلاف الكم والكيف البنيويين بين هذين الصنفين من الدوال الفعلية (بالرغم من كون الفعل الحرفي نفسه يمكن أن يشكل نوعاً من العبارة، أو العُبيرة)، فالأول يتكون من فعل وحرف جر(في أحيانٍ قليلة يتكون من حرفين، أو من فعل وظرف، مثل "دون" و"بين")، فيما يتكون الثاني من فعل زائداً ما هو أكثر من الحرف الواحد (فعل +اسم/شبه جملة...الخ)، ومن أمثلة أفعال العبارة: لم يلقِ بالاً لـ، أخذ على عاتقه، ألقى نظرة على، وضع في الاعتبار...الخ[5]. وبغض النظر عن اختلاف الكم البنيوي (عدد المفردات المكونة) والكيف البنيوي (نوع المفردات، الأسلوب، المجاز، ...الخ) في عبارتي "عرضَ+الجندَ" و"عرض+على+السيف"، فإن كلاهما يدل على معنى الفعل بكيفية مصطلح عليها. فهما تتفقان في الهوية الدلالية، من حيث أن كلاهما فعل عبارة، وتفترقان في القيمة الدلالية: للأولى قيمة المصطلح "التقني أو المتخصص" وللثانية قيمة الاصطلاح المجازي. فالسبب إذن وراء إيثارنا تسمية هذه الدوال الفعلية بالأفعال الحرفية، وليس أفعال عبارة، هو سبب عملي: إرادتنا، لدواعي التصنيف، جعلَ الأفعال الحرفية فئة مستقلة؛ وهو أيضاً شكلي: يتعلق بكم ونوع المفردات المكونة لها[6]. وكان يمكن أن أنقول "فعل عبيرة"، لكن آثرنا تسمية "فعل حرفي" أيضاً لكونها "تعترف" للحرف بفضله في هذا التركيب.
إلى ذلك، نود التنبيه إلى أننا سوف نضطر أيضاً إلى تمييز قسم ثالث من "الدوال الفعلية" هو العبارات الفعلية، وهي تلك الجمل الفعلية التي تجري مجرى الأمثال والأقوال المأثورة والكنايات والاستعارات السائرة (عاد بخفي حنين؛ تمخض الجبل فولد فأراً؛ رضي من الغنيمة بالإياب؛ طفح الكيل؛ بلغ السيل الزبي...الخ)، والتي هي في الحقيقة ليست فقط جملاً تامة في مبناها ومعناها، أو جملاً مفيدة، بالمعنى النحوي، وإنما هي وحدات مستقلة عن السياق (معناها "جاهز ومكتمل" لا يعتمد على السياق) ومهملة نحوياً (قد لا يميل الناس إلى مراجعتها نحوياً وإن اشتملت على خطأ، مثل قولهم: "مكره أخاك لا بطل"، والصحيح نحوياً: أخوك) و"مصمتة" (ليست لديها "عُرىً" لربطها بالجوار السياقي ولذلك لا يمكن تصريفها إلا بقدر محدود: عدنا/عادوا بخفي حنين) وإن يكن أكثر ارتباطها بالسبوق فمنها ما ينشأ في الرهون (مثل قولهم (المستعار بالترجمة): يصطاد في الماء العكر)، وتنطوي على قيمة ثقافية وعلى محتوىً تعبيري مجازي، وإن كانت هويتها كثيراً ما تكون أدبية، إلا أن استعمالها المشاع قد يقلل أحياناً من قيمتها، ما يجعلها تنتمي إلى "أدب الصحافة". أما أفعال العبارة فتتخذ شكل "قوالب" أسلوبية مرتبطة بالسياق، وتتفاوت مستوياتها من حيث الرصانة والقيمة الأدبية/الصحفية/الإدارية...الخ. وسنعرض لهذه المشكلة التعريفية باستفاضة في القسم الخامس من هذا البحث.

وهكذا تكتمل قائمة الدوال الفعلية التي يعتمدها هذا البحث:
- فعل مجرد: وقف
- فعل مزيد: استوقف...الخ
- فعل حرفي: وقف على...الخ
- فعل عبارة: وقف منه موقفَ (المتفرج)
- عبارة فعلية: وقف حمار الشيخ في العقبة

ولا يخفى أن مجال هذا البحث ينصب في المقام الأول على الأفعال الحرفية ضمن هذه الدوال، وإنما نعرض للدوال الفعلية الأخرى من قبيل المقارنة، وتصوير الطائر ضمن سربه، وتعريف الشيء بضده.

و لا يغيب عنا كيف أن هذا "الإكثار الدلالي" للفعل كثيراً ما يخترقه خيط رقيق من المجاز، يمر عبر كل المدلولات - وإن تباينت حتى بدت منفصلة - فيكسبها لحمةً واحدة، هي وحدة الأصل الدلالي رغم بعد الشقة أحياناً. فكل معاني باب "ع ر ض"، على سبيل المثال، ربما تجد أصلها في "العُرْض" الذي هو غير الطول، فكأن كل ما "يَعْرِض" إنما يُظْهِر لنا "عُرْضَه".
















مقدمة

ما هي الأهمية العلمية والعملية لدراسة الأفعال الحرفية وأفعال العبارة وغيرهما مما سوف نسميه فيما بعد بالأفعال اليتيمة والأفعال الميتّمة وأفعال الإسناد الحصري؟

إن مثل هذه الدوال الفعلية المركبة (أخذ بـهذا القول، أخذ هذا القول عن، أخذ في النفاذ، أخذ عليه كذا، أخذ في الاعتبار، أخذ بعين الاعتبار، أخذ على عاتقه، أخذ بتلابيبه، "أخذهم أخذ عزيز مقتدر"...الخ) قد لا تقل أهميةً عن الدال الفعلي المفرد المجرد (أخذ)، ولا عن مشتقاته المفردة المزيدة: اتّخذ، آخذ. فلربما أمكننا، افتراضاً، أن نستغني عن الفعل البسيط "أخذ" ونستخدم عوضاً عنه بعضاً من مرادفاته الكثيرة، مثل: "نال"، "تناول"، "نزع" "انتزع"..الخ. لكن ماذا سنفعل حينها بدواله المركبة التي ذكرناها للتو أعلاه؟ إن الفعل البسيط، في كثير من الأحيان، ما هو إلا أكمة وراءها ما وراءها، أو ما هو إلا باب يفضي إلى طوابق وغرف ودهاليز مليئة بالدوال والمدلولات الفعلية. فـ (ضرب)، ليس هو كل شيء في باب "ض رب"، بل هو دال واحد ضمن حشد كبير من الدوال المختلفة المدلولات: "ضرب بـ، ضرب في الأرض، ضرب في سبيل الله، ضرب به عرض الحائط، ضرب الذكر صفحاً، ضرب إلى الحمرة، ضرب موعداً، ضرب أخماساً في أسداس...الخ".

تأسيساً على ما تقدم، فإن أي قاموس للغة العربية لا يُعنى بإثبات كلَّ الدوال الأصلية، وكل الدوال المركبة/الفرعية، لدى تعرضه لأي فعل من الأفعال، سيكون قد فرّق تفريقاً غير مقبول بين دوال فعلية ربما تكون متساوية في الأهمية من حيث استخدامها في اللغة، أو ربما تتفاوت في الأهمية على نحو غير الذي ظنه مصنف القاموس؛ فيكون هذا الأخير، بالتالي، قد قصر، دون عذر، في إيفاء ذلك الفعل حقه من التشريح الدلالي باستيفاء كافة دواله، ويكون أسهم، من خلال ذلك التقصير، في إيجاد حالة من التناقض، أو تكريسها، بين اللغة والكلام[7]، ما يؤدي إلى وضع لا يعود فيه مستخدم اللغة قادراً على التفريق بين "وصل القاهرة" و"وصل إلى القاهرة"، وبين "نظر إلى" و"نظر في"، أو بين "أخذ في الاعتبار" و"أخذ في البكاء"، أو بين "أخذ على عاتقه" و"أخذ على كتفه". إذن، فإن من شأن التعرُّف على الأفعال الحرفية ودراستها (وكذلك التعرف على أفعال العبارة ودراستها) أن يساعدا في تطوير التصنيف المعجمي، وبالتالي تقليل مقدار التناقض بين المستويين المنهاجي والنتاجي في اللغة.

إن الأفعال الحرفية في اللغة العربية هي حقيقة دلالية وبنيوية راسخة في السبوق والرهون[8]، مثلما هي كذلك في نظيرتها الإنجليزية. ومن شأن العناية باستقصاء ما تحويه اللغة العربية، القديمة والحديثة ، وكذلك ما تحويه لهجاتها العامية، من هذه التراكيب، أن تثري هذه اللغة، لاسيما أن الأفعال الحرفية فيها، على النقيض من نظيرتها الإنجليزية، تنتمي إلى مستوىً مرموقٍ من مستويات التعبير.

***
سنحاول في هذا البحث دعم هذه الرؤية للعلاقة الوظيفية الدلالية بين الفعل وحرف الجر، مع التنويه، منذ البداية، بأن هذا الموضوع يحتاج إلى الكثير جداً من الاستقصاء والدراسة. لكن بعد ذلك الاستهلال وهذه المقدمة في القسم الأول، وقبل أن ندخل في صلب الموضوع، سوف نسمح لأنفسنا، في القسم الثاني، باستجلاء ماهية الحروف، حسبما تشهد به كتب التراث النحوي العربي، واستبيان العلاقة بينها وبين الفعل وأقسام الكلام الأخرى، واستجلاء معانيها، وحقيقة ما أشيع من إحلال بعضها مكان بعض، معلقين على كل ما عرضنا له من أقوال النحاة، ومتلمسين بعض الاستنتاجات التي تشكل حلقة ربط بين ما خرجنا به من التراث النحوي وبين دراستنا "للأفعال الحرفية" العربية التي ستأتي في القسم الرابع، الذي يسبقه قسم ثالث يعيد اكتشاف الفعل: إفعالاً وتزميناً وإيعاباً. وبعد فراغنا من التعريف بالأفعال الحرفية وحشد الأمثلة وتحليلها، سوف نعرض، بإيجاز، لظاهرة مماثلة في الإنجليزية هي ما يسمي بأفعال العُبيرة، Phrasal Verbs، بهدف المقارنة بين هذه وتلك، تعميقاً لفهم الظاهرة على مستوىً آخر أفقي، وسبراً لطرائق تجليها في لغتين جد مختلفتين. ثم سوف نعنى، في القسم الخامس والأخير، بمناقشة المصطلحات والمسميات الرئيسة التي استخدمناها في صلب البحث، شارحين ما يكمن وراءها من المدلولات والمفاهيم، ومبينين دواعيََ لجوئنا أحياناً إلى اعتماد تسميات قد لا تكون مطروقة.

ونختم البحث بخلاصة موجزة، يعقبها ملاحق أربعة: نقدم في أولها نموذجاً لشجرة دلالية لأحد الأفعال في اللغة العربية - الجذر "ض رب" - بوصفه مثالاً للإكثار والسلوك الدلاليين للفعل في اللغة العربية، إكثاراً بالوسائل الأسلوبية من خلال المجاز والاصطلاح، وإكثاراً صرفياً بتطويع الاشتقاق، وأيضاً إكثاراً تركيبياً عن طريق التصرف في السياق الجواري وتطوير العلائق التبادلية (أو التعالقات[9]) بين أقسام المفردات. في الملحق الثاني نعرض مسرداً بما تيسر لنا جمعه من "الأفعال الحرفية" في الوضعين السبوقي والرهوني للغة العربية؛ ونعرض في الملحق الثالث طائفة نموذجية من أفعال العبارة والعبارات الفعلية؛ ثم نقدم في الملحق الرابع والأخير مسرداً بأهم المصطلحات والمسميات الجديدة التي وردت في ثنايا البحث. هذا، بالإضافة، بالطبع، إلى قائمة بالمراجع والمصادر.

إن هدفنا من وراء هذه الدراسة هو المساهمة في "إعادة رؤية" نأمل أن يحظى بها النحو العربي، ليس فقط في جانب العلاقة بين حرف الجر والفعل، بل في غاية النحو، ووسائله، وسائر أبوابه، وأن يتصدى لها، ليس فقط نحاة جدد، أو مجددون، بل سائر الفاعلين على صعيد الاستنهاج والإنتاج اللغويين، من الكتاب، في جميع ميادين الكتابة، والصحفيين ورجال الأدب وعلماء اللغة وفقهائها وطلابها وباحثيها ومحبيها. ونحن إذ نأمل أن تساعد مثل هذه الدراسات في تحقيق بعض التجانس ما بين اللغة والكلام، أو بين المنهاج والاستنهاج، فإننا لا نضمر البتة هدفاً غايته "تغيير" في النحو القديم، ولا حتى "تيسير" له؛ فغاية طموحنا هي أن ننفذ، من خلال دراسة واقعنا وماضينا اللغويين، إلى الكيفية الوصفية التي سارت عليها لغتنا في السابق، وتسير عليها في الحاضر، وما ينبغي أن تكون عليه معرفتنا بكل ذلك. فليس من رأينا أن التغيير المبيتة نواياه، أو التيسير الذاتية دوافعه، هما مما ينبغي أن يشتغل به الباحث الألسني أو النحوي؛ فذلك شأن المختصين ببيداغوجيا اللغة، ومن استهدى بتقنياتهم، أو لم يفعل، من أصحاب الإيديولوجيات ورجال السياسة، أو دعاة التغريب/دعاة التأصيل، أو المدفوعين بأغراض شتى. أما الباحث اللغوي فحسبه بحثه ووصفه القائم على التقصي والاستقصاء والتحري والاستنتاج، وفق الأسس العلمية، وما ضره سهل ما سهل أو صعب ما صعب من أمر اللغة. غير أننا نمضي في هذا الجهد مقتنعين بأن الفهم الصحيح لسلوك أصوات اللغة ومفرداتها وتراكيبها، والوصف السليم للكيفية التي تسير عليها اللغة في أداء دورها التواصلي وتأديته، هما الأساس الذي ينبغي أن يرتكز عليه كل مَنْ نوى باللغة أمراً من الأمور.

لربما نكون تعرضنا بالنقد لبعض جوانب من التراث العربي النحوي. وليس النقد الموضوعي من التطاول في شيء. إن النحاة وعلماء العربية ومصنفي المعاجم القدماء إنما كان انصبَّ جلُّ همهم على تحقيق الجوانب النحوية والصرفية والمعجمية، في تلك الحقبة المبكرة من وضع علوم العربية. وإن كانوا عنوا بسياق المفردات شارحين معانيها، مستشهدين بالشعر والقرآن، إلا أنهم ما كانوا ليتوقفوا كثيراً في دراسة سلوك المفردات الدلالي في السياقات غير الاعتيادية، طالما أن التراكيب التي ترد فيها لا تشكل "تحدياً" من وجهة النظر النحوية. فلهذا السبب لم نجدهم التفتوا كثيراً إلى جانب الوظيفة الدلالية في تلك العلاقة التي تجمع بين الفعل وحر الجر فتعطينا معنى جديداً. فحرف الجر في "وقف على رجليه أمام عتبه منزله" و"وقف على رجليه" و"وقف على سير العمل" يؤدي نفس الدور النحوي، فلذلك لم ينظروا إلى أي فرق آخر ربما كان كامناً وراء ذلك "الشكل المتسق نحوياً". ولربما منعهم من ذلك أيضاً ما سرى بينهم من أن الحرف لا معنىً له قائماً بذاته، لذلك نجدهم نظروا إلى أقسام الكلم نظرة "تراتبية"، وانصرفوا بالتالي في بحثهم إلى الأفعال والأسماء بالدرجة الأولى. لكن، رغم كل هذا الذي سقناه، يجب الاعتراف بأن النحاة القدماء لم يكونوا رجلاً واحداً ولا رأياً واحداً. فإذا نقبنا في أخبارهم، وجدنا من بينهم رجالاً تفرغوا، كأخلص ما يكون التفرغ، لتخصصاتهم؛ وإذا تقصينا آراءهم، وجدناهم قد سبقوا، أو كادوا، إلى معظم ما قد يعنُّ "للمتأخرين" من أمثالنا من مواطن النقد وأوجهه، حتى كأنهم "ما غادروا من متردم". لذلك فإننا لنمضي إلى القول، مُقِرِّين، بأنّ ما مِنْ جهد في نقد النحو العربي، أو إعادة النظر فيه، سوف يكون أهلاً للوقوف غيرَ مطأطئ الرأس إن لم يُبْنَ على أساسٍ واسع وراسخ من إعادة اكتشاف أولئك الجهابذة، من لدن سيبويه حتى ابن جني، وصعوداً وهبوطاً، في كل ما ألفوه أو قالوه أو نقلوه.

هذا، ومع لجوئنا كثيراً في هذا البحث إلى كتب التراث، وإفادتنا، في هذا المسعى، مما تذخر به آراء القدماء، إلا أننا لم نضرب صفحاً بالطبع عن الأسس المنهجية التي أرستها الألسنية الحديثة، ولا البحوث المقارنة بين مختلف لغات العالم، ولا اجتهادات النحاة الجدد، من مجددين وتقليديين، ولا نظريات المستشرقين والمستعربين من "نحاة العربية الناطقين بغيرها"، ولا الملاحظات العميقة في ديناميكية عمل لغتنا العربية في شتى مظان نتاجها: في مستوياتها الأفقية: العامة والعامية والأدبية والمتخصصة (العلمية والقانونية والإعلامية...الخ)، وفي مستوياتها الرأسية، من حيث تباين لهجاتها الإقليمية والوطنية والمحلية، وفي وسائل توصيلها: الشفهية (المحادثة)، والرمزية (الكتابة)؛ ومظان منهاجها: في علومها (علم الأصوات، والصرف، والنحو، والدلالة، والأسلوب، والبلاغة...)، وفي مظن تطبيقها: الترجمة منها وإليها، وتدريسها.

سائلين الله التوفيق وتجنيبنا الزلل، و أن يقيض لمثل هذه المسعى مَن يوفي ما نكون قصّرنا فيه، ويبلغ به غايته، فلغتنا عقلنا وقلبنا قبل أن تكون لساننا.

الريح عبد القادر عثمان
صنعاء، رمضان 1427

القسم الثاني

الفصل الأول
علاقة الفعل بالحرف في التراث النحوي العربي

"إن الكلام إنما وضع لفائدة، والفائدة لا تجنى من الكلمة الواحدة، وإنما من الجمل ومدارج القول[10]."

لا شك أن تقسيم النحاة القدماء عناصر الكلم إلى ثلاثة أقسام، هي الاسم والفعل والحرف، يتسم بالتعميم والتبسيط[11]، وأدى إلى تعريف تلك الأقسام تعريفاً فضفاضاً "جامعاً بالقسر و مانعاً بالتعسف". ونعتقد أن ذلك أثر سلباً في توجيه البحث النحوي لديهم، ثم لدى الأجيال اللاحقة. وإن نكن غير معنيين كثيراً بهذا الأمر هنا، إلا أننا ربما أردنا التنبيه إلى أن أي إعادة-رؤية للنحو العربي لا بد أن تبدأ بإعادة تقسيم عناصر الكلام (وليس الكلم) انطلاقاً من طبيعة اللغة العربية، ووظائف مفرداتها وتراكيبها نحوياً ودلالياً وأسلوبياً، وعلى أساسٍ من علم الألسنية الحديث (لكن مع ضرورة عدم مماهاة هذا الأخير بنحو اللغات الأوربية). فتعريف النحاة للحرف مثلاً- وهو ما يهمنا فيما نحن بصدده هنا- قام في الأساس على الوظيفة النحوية الإعرابية دون الوظيفية الدلالية، فنراهم جمعوا أشتاتاً متباينة في سلة واحدة: "إنّ" و"أنْ" و"مع" و"قد" و"نعم" و"حتى" وقلما" و"كيف" و"ما" و"مَنْ"، و"حيث"[12]، وربما أضافوا إلي ذلك ظروف الزمان والمكان، و"عسى" و"ليت" و"لعل" بل حتى "كانَ[13]" وأخواتها. ثم أننا نجدهم، في تضاعيف شروحهم، يستخدمون تسميات مثل "ظروف" و"أدوات" دون أن يعودوا فيجعلوها من أقسام الكلم[14]. فمغني اللبيب، على سبيل المثال، يتحدث عن مفردات ويقصد بها " الحروف وما تضمن معناها من الأسماء والظروف"[15]. ويعرّف الكثيرون منهم الحروف "بأنها ما يفيد بمعنى في غيره"، بعكس الاسم والفعل الذين يشيران إلى معنى فيهما؛ وقيل إنها ما "لا يخبر به و لايخبر عنه[16]". ولا نكاد ندري أي دور أو وجود للحرف إذا انتفى عنه الإخبار عن غيره وافتقر إلى الإخبار عنه. وحاولوا أحياناً تعريفها بكم حروفها، أو بأنها لا تفيد معنى مع كلمة واحدة، وقالوا إن الحروف إما تغير المعنى واللفظ والحكم[17]، وإما تفعل بعض ذلك أو لا تفعل. ونقرأ في المفصل: "لا ينفك الحرف عن اسم أو فعل يصحبه[18]"؛ ويوضح سيبويه أن من وظائف الحرف "تعدية الأفعال على الأسماء[19]"؛ لكنه، أي سيبويه، يعتمد أسلوباً إقصائياً في تمييز الحرف عن الاسم والفعل، من ناحية، ودمجياً من ناحية ثانية في جعله جنس الحرف كتلة مقابلة لكتلتي الأسماء والأفعال: فالحرف عنده كل ما ليس باسم و لا فعل. ثم نجد الحرف نفسه يسهم في تعريف الاسم عند ابن جني في اللمع: "الاسم ما حسن فيه حرف من حروف الجر"[20]. والطريف أن من أهداف بحثنا هذا تبيان أن الفعل أيضاً يحسن فيه حرف من حروف الجر. ورغم تجريدهم كثيراً للحروف من المعني الذاتي، إلا أنهم، لدى الحديث عن حروف الجر، عقدوا فصولاً تتحدث عن معاني الاستعلاء في "على" ومنتهي الغاية في "إلى" وبدء الغاية في "من" على نحو ما نرى في كتاب "حروف المعاني"[21]. وتحدث سيبويه6 عن الحروف التي تدخل على الأفعال مثل قد، لقد، والسين وسوف، وربما وقلما، ونحوها، وهلا، وألا ولولا، مشيراً إلى أن حروف الجر تختص بالأسماء دون الأفعال. هذا، وقد أحصوا من حروف الجر عشرين حرفاً.

إذن فإن التراث النحوي العربي جمع سائر أدوات اللغة من غير الأسماء والأفعال في جنس واحد هو الحرف. وهذا بلا شك جعل تعريف الحرف مضطرباً ومتناقضاً وفيه إجحاف كبير بهويته وبتصنيفاته وبدوره ووظيفته ودلالته. وزاد الأمر فداحة أن تقسيمهم الكلم لم يجيء، فيما يبدو، انطلاقاً من بنيات لغوية حية تتم فيها دراسة العناصر في سياقها وديناميكيتها، ويتم تصنيفها بناء على طبيعتها وسلوكها ووظيفتها التركيبية والدلالية، بل قام على أساسٍ تجريدي لا-سياقي، الأمر الذي ألحق الأذى بالأقسام الثلاثة وبالحرف على وجه الخصوص بوصفه الأكثر سياقية من القسمين الآخرين. فوق ذلك، شابت هذا التقسيم نظرة تراتبية وضعت الحرف أسفل سلم الكلم، فهو المتكئ على غيره، الذي "لا يخبر به ولا يخبر عنه"، ونظن أن ذلك لم يغرِ النحويين كثيراً بالقيام بدراسات واسعة لاستجلاء دور الحرف ووظيفته في دلالة الكلام، التي هي القصد الأول من وجود أقسام الكلم. ومن الملاحظات ذات المغزى في هذا الشأن أن أكثرهم تحدث عن "الكلم وأقسامه" لا عن "أقسام الكلام أو القول". والفرق بين الكلم والكلام فرق خطير يصل إلى درجة الفرق بين اللغة واللا-لغة! ألم تبدأ ألفية ابن مالك بالتفريق بين الكلام "اللغوي" المفيد والكلم الجامد المجرد "اللا-لغوي":
كلامنا لفظ مفيد كاستقم *** اسم وفعل ثم حرف الكلم
ثم ها هو صاحب أسرار العربية يقر ضمناً في افتتاحية كتابه بأن تلك الأقسام لم تكن مستوحاة من اللغة الحية الفاعلة، بل من قوائم مجردة وجامدة بمفرداتها:
"إن قال قائل: "ما الكلم؟"، قيل: الكلم اسم جنس واحدته كلمة كقولك نبقة ونبق ولبنة ولبن وثفنة وثفن وما أشبه ذلك؛ فإن قيل: "ما الكلام؟"، قيلك ما كان من الحروف دالا بتأليفه على معنى يحسن السكوت عليه؛ فإن قيل: "ما الفرق بين الكلم والكلام؟"، قيل: الفرق بينهما أن الكلم ينطلق على المفيد وعلى غير المفيد، وأما الكلام فلا ينطلق إلا على المفيد خاصة"[22].

هكذا إذن كان نظرهم إلى الحرف، وكذلك إلى الاسم والفعل، من خارج اللغة، فلا غرو أن وقع الضيم على الحرف ولم يسلم منه كذلك لا الاسم ولا الفعل. لكأني بدارس فسيولوجيا الجسم يستقي معارفه، لا من جسمٍ كاملٍ ممدداً تحت مبضعه، بل من أعضاء فُصِلت عن الجسم، ثم جُمِّدت ورُصَّ بعضُها فوق بعض! وهكذا رأينا أنه لم تقم النعوت، مثلاً، كقسم مستقل من أقسام الكلم، لسبب بسيط هو أن النعت يحتاج إلى السياق لكي يكون نعتاً، فلما لم يكن التقسيم قائماً على السياق، فقد النعت تلك الهوية فصار من الأسماء. وانطبق الأمر كذلك على المفردات الظرفية الدالة على الزمان والمكان والحال والنوع مما إذا فقد سياقه فقد إعرابه فصار اسماً، مثل: صباح/ صباحاً؛ الجري/ جرياً؛ الترفع/ ترفعاً، سرعة/ بسرعة...الخ.

لكن كل هذا لا يجب أن يعمي أعيننا عن حقيقة باهرة: إن حسّهم "الألسني" مكّنهم من التمييز، تمييزاً "ألسنياً"، بين الكلم والكلام (وهو مستوىً آخر من التمييز غير ذلك الذي ارتآه دو سوسور في ما بين اللغة واللسان).

الباب الثاني
ملاحظات حول علاقة الفعل بالحرف
في النحو العربي


وقع الضيم إذن على كل أقسام الكلم: على الاسم، فعد فيه ما ليس منه من المفردات النعتية والظرفية والضمائر الشخصية وضمائر الموصول ومعالم الإشارة؛ وعلى الفعل فنظر إلى مركباته التزمينية (الزمنية والإيعابية)[23] من نحو "كان يذهب" و"كان ذهب[24]" نظرة نحوية صرفة فتتت الدال المركب الواحد إلى جزيئات غير دالة، وأغفلت المدلول الزمني الذي تنطويان عليه، لمصلحة الترف النحوي، تحت دعاوى الإضمار و ذرائع التقدير؛ وقبل ذلك وقع الضيم على الحرف حتى لا نكاد نتعرف على ماهيته ولا على وظيفته.

من خلال دراسة أقسام الكلم في التراث النحوي تثور بعض الملاحظات التي نراها ذات صلة بموضوع بحثنا من حيث أنها تؤيد ما نعتقده من وجود علاقة عضوية بين حرف الجر والفعل، وليكن شعارنا إذن: من الفعل ما يحسن فيه الحرف، وهو نقيض ما صرح به، كما أسلفنا، أكبر من نجلهم من فقهاء النحو العربي: أبو الفتح عثمان بن جني. من هذه الملاحظات:

كل حرف دال إما مباشرة (كاف التشبيه)
وإما بالتضامن في السياق من خلال وظيفته في التركيب (أن المصدرية) :
إن بعض الحروف تشير إشارة لا لبس فيها إلى معنى محدد هي دالته. فكاف التشبيه[25] لا تفيد بسواه، وهي تدل على التشبيه على النحو الذي يفيدنا به الاسم "مثل" والفعل "يشبه"؛ و"هل" تفيد بالاستخبار ما تفيد به جملة "أسألك"؛ يقول ابن جني: "إذا قلت: ما قام زيد فقد أغنت "ما" عن "أنفي"، وهي جملة فعل وفاعل"[26]. وكذلك رب، وحتى، وقلما، وربما، وغيرها مما يعدونه من الحروف. أما "عن" و"من" و"إلى"...الخ فهي أيضاً تثير في الذهن معانٍ، وإن تكن غير محددة تماماً فإن ذلك شأن كل كلمة مفردة خارج سياقها. فالسياق وحده هو الذي يحدد معنى الكلمة اسما كانت أم فعلاً أم حرفاً، ومدلول أي كلمة هو سياقي بالضرورة. فكلمة "ذهاب" مثلاً لا تفيدنا بالفاعل ولا نوع الذهاب: هل هو من المكان إم إليه؟ وهل هو ذهاب بمعنى الانطلاق: "ذهب إلى المسجد" أم ذهاب بمعنى الهلاك والفناء "ذهب ماله"، أم ذهاب بمعنى تبني رأي معين: "ذهب إلى ذلك جماعة من العلماء"؟. أما بعض "الحروف" الأخرى مثل "أنْ" المصدرية في جملة من نحو: "أراد أنْ يذهب" فهي أداة لُحمة، ودلالتها هي دلالة الربط النحوي والتركيبي، وهي جاءت لتعين على تبيان معنى الحدث المعبر عنه بالفعل، فهي إذن دالة بالتضامن مع سياقها، فلا تفيد الجملة بدونها ما أفادت به في وجودها، ولولاها لأصاب الجملة قصورٌ في الدلالة وفي الصحة والمنطق النحويين، ولما تمكنا في النهاية من فهم "إرادة الذهاب" الذي قصدت الجملة التعبير عنه. أما إذا ذكرت لنا وحدها فإننا نفهم أنها، في المنهاج، تلك الأداة التي تؤدي تلك الوظيفة في الإنتاج، أي الكلام.

إفراط العناية بأصل المفردات (الإيتيمولوجياEtymology/ie ) على حساب الوظيفة الدلالية والنحوية:
من ذلك أنهم اهتموا بالإشارة إلى أن الكاف في "كما" هي كاف التشبيه نفسها دخلت عليها "ما" فصارت الأخيرة في محل جر بها ! واكتفوا بهذه المعلومة "المترفة" عن الإشارة إلى وظيفة "كما" التي تختلف عن وظيفة كاف التشبيه. تختص الكاف بالأسماء وما يقوم مقامها، وتدخل "كما" على الجملة: "افعل كما يفعل/ عاد كما كان"، وتدخل على الاسم لكن بتأويله جملةً: "أنا كما أنا"، فـ "كما أنا" لا تعدل "كأنا*"، بل المعنى: أنا كما كنتُ وكما أنا كائن الآن)! كأنهم بهذا الصنيع يقولون إن "كما" تعادل "كالرجل"! فلم يضعوا اعتباراً لكون الكاف إنما دخلت على "ما" لإنشاء أداة جديدة تختلف وظيفياً اختلافاً أساسياً وتصلح لما لا تصلح له كاف التشبيه منفردة:
"عاد كما ذهب"، أي حاله في عودته يشبه حاله في الذهاب[27]
¹ عاد كذهب، أي أن الفعل "عاد" مثل الفعل "ذهب" (قام الفعل هنا مقام الاسم)؛
"كما يطيب لي أن..."¹ كـيطيب لي أن*. "كما" هنا تقوم مقام "أيضاً".
"كأن تقول.." / "كما تقول".
إذن فإن رد الكاف في "كما" إلى كاف التشبيه إنما ينتمي لعلم أصول المفردات، لكنه لا يتحكم في المعني ولا يقيده (الدليل على ذلك أن "كما" لا تعادل "كالرجل")؛ أما القول بكون "ما" مجرورة بالكاف، فهو من فضول النحو فحسب كما أسلفنا. وينطبق الأمر نفسه على العلاقة بين كاف التشبيه و"كأنْ" و"كأنّ"، والفرق جلي بين "كأنه يقول.." و" كأنْ يقول" و"كيقول".

إفراط العناية بالشكلية النحوية:
ومن ذلك أنهم عادوا فاعتبروا الحرف اسماً بسبب دخول حرف آخر عليه، ولم يعترفوا بأن الحرف قد يتعرض هو أيضاً للتحديد بواسطة حرف آخر، وأنه قد يتحد الحرفان ليكونا حرفاً مركبا. فهم يقولون في "مِن على" أن "من" حرف جر و"على" اسم مجرور بها. ثم اشتط آخرون فقالوا إن الفعل "علا" هو حرف الجر نفسه صار فعلا[28]ً! وما نراه هو أن "على" في قولنا "وضع الكتاب على الطاولة" هي نفسها "على" في قولنا "سقط الكتاب من على الطاولة"، ولا داع لخلعها من الحرفية وإلباسها الاسمية، فإنما هي شق من حرف مركب أصبح يشير إشارة ظرفية زمانية مركبة هي: موضع الكتاب زائداً اتجاه سقوطه. أما الأداة المركبة "بكم؟" فتدل على أكثر مما يدل عليه الاسم وحده: "ما ثمنُ..." أو الفعل وحده "أخبرني ثمن...".

الحرف دال بالتضامن مع مفردة واحدة:
قد يتحد الحرف مع الاسم فيؤدي معنى الفعل، فيكون الاثنان مشتركين بالتساوي في الدلالة:

في البيت رجل[29] = يوجد رجل في البيت
ما بك؟ = ماذا أصابك؟
دونك الدرهم = خذ الدرهم
لا عليك = لا تهتم للأمر/ لا تحزن
بكم؟ = أخبرني ثمنه!
عليك به = اهتم بأمره
إلى به = ائتوني به
ما له... = لمَ هذا حاله
ما لـ...و لـ... = ما ذا يعنيني من أمره: ما لي وللخمر
إليك عنى = اتركني لشأني
هيا بنا = لنذهب



دور الحرف في تكوين أقسام جديدة تتعدى الاسم والفعل والحرف:
نقصد بذلك تكوين عبارة أو عُبيرة مركبة من مفردتين (أو أكثر) أحدهما حرف وتكون لها قيمة القسم من أقسام الكلام (الاسم، المصدر، النعت، الحال، الفعل، ظروف الكيفية...)، ولهذا يمكن أن نطلق عليها "عبيرة قِسمية"، أي أنها بمثابة القسم من أقسام الكلام (كما سنرى لاحقاً). ومن ذلك: عبارة "أنْ يذهب" لها قيمة المصدر وهوية العبيرة القسمية المكونة من "أن" المصدرية والفعل المنصوب بدخولها. فـ "أن" المصدرية لها نفس الوظيفة الدلالية التي لـ "ما" المصدرية: أن يقول = قوله = ما قاله.
أما العبارات التالية فتدل على قسم من أقسام الكلام لا هو بالاسم ولا بالفعل ولا بالحرف:
بسرعة = سريعاً (حال ظرفية[30])
على علم = عالم/عالما (نعت: أنا عالم بحالك؛ أو حال شخصية: جئتك (وأنا) على علم بحالك)
على استعداد = مستعد (نعت/حال شخصية حسب السياق النحوي)
على ثقة = واثق/واثقاً (نعت/حال شخصية، حسب السياق النحوي)
بثقة = في حضور الثقة (حال ظرفية، وليست شخصية، فعبارة "قال بثقة" تعني: قال قولاً يدل على الثقة: الثقة في نبرة القول: الباء تفيد الوسيلة، أو الالتصاق، أو الصحبة).
في ثقة = نعتقد أنها تختلف عن "بثقة" إذ قد تكون حالا شخصية: قال والثقة فيه: "في" تفيد التمكن من المكان)
عن ثقة = (حال ظرفية. عبارة "قال عن ثقة" تعني: قال قولاً مصدره الثقة: الثقة مستمدة من القول الموثوق به: "عن" تفيد التجاوز)
بلا هوادة = ظرف كيفية نوعية (عبارة "طاردهم بلا هوادة" تشير إلى كيفية المطاردة أو نوعها)
في غضون = عبيرة ظرفية زمانية
من حيث = تمييز (عبارة: "هو مقبول من حيث الشكل" تعادل دلالياً: هو مقبول شكلاً)
من حيث = ظرف زمان مركب (عبارة "من حيث لا أدري" تدل على المكان ومصدر الحركة)

إضافة إلى الكثير الكثير من العبارات مما لا مجال لذكره: بعكس، بخلاف، في العادة، بالضرب، بالتعاون، بيد من حديد، بهذه الصورة، على الدوام، من هنا، عن بعد، عن قرب، عن كثب، مع ذلك، رغم ذلك، بيد أن،...الخ.

القيمة الحرفية للتنوين:
إن ظاهرة التنوين، وإن كتبت بعلامات غير الحروف، فإنما هي أداة يجدر أن تدخل في جملة القسم الثالث من أقسام الكلم التقليدية، أي قسم الحروف والأدوات. على سبيل المثال، قد يكون التنوين بالفتح بمثابة أداة تلحق بالاسم فتغير جوهره:
(أ)
جاء مشياً،
الأخسرون أعمالاً،
يختلف التنوين في المثالين السابقين جوهرياً عنه في المثالين التاليين:
(ب)
لا يحب مشياً ولا جرياً؛
خَسِرَ أعمالاً كثيرة؛
فهو في (ب)، بحكم كونه أداة نحوية، لم يغير من رتبة الاسمية، لكنه في (أ) صار، وظيفياً - لا فعلياً بالطبع – أداةً صرفية على غرار الزوائد الصرفية (أي فعلَ ما تفعله ياء النسبة مثلاً: اليمن (اسم علم) > يمني (صفة)) فحوّل الاسم، على التوالي، إلى حال و إلى تمييز.

تأثر الفعل تأثراً غير نحوي بالحرف:
يختص حرف الجر بالاسم نحوياً فيجره، لكنه يختص أيضاً، دلالياً، بالحدث الذي يعبر عنه الفعل فيخصصه أو يحدد معناه أو مجال طائلته. فلنأخذ الفعل "يمدح" مثالاً في عدد من السياقات ولننظر كيف تتفاوت معانيه:
1. يمدح من الخلفاء
2. يمدح للخلفاء
3. يمدح عن الخلفاء
فالمديح حسب المثال 1 يخص بعض الخلفاء، لا كلهم؛ وفي 2 هو من أجلهم؛ وفي 3 هو بالنيابة عنهم. فتعلق حرف الجر، فيما سوى التعلق النحوي بالاسم، إنما هو بالفعل تخصيصاً لمدلوله، وتحديداً لكيفية تعديه على الاسم. ولكي لا يدفع أحدٌ بأن حرف الجر يتعلق دلالياً أيضاً بالاسم بحجة أن "من الخلفاء" تعني "بعض الخلفاء" نرد بأن معنى "التبعيض" في "مِن" لا يتهيأ بدون سياق فعل يسمح به، فمن الممكن أن يكون معنى "من" "بدء الانطلاق": "جاء من الخلفاء" أو الإشارة إلى المصدر "أخذ من الخلفاء". وهكذا، فإن معنى التبعيض في جملة "يمدح من الخلفاء" يتهيأ بفضل المسايق الفعلي وليس المسايق الاسمي؛ والتقسيم الصحيح للجملة هو:
"يمدح من" + "الخلفاء"، وليس:
"يمدح" + "من الخلفاء".
وبالمثل، تدخل "إنّ" و "أنّ" على الاسم فتؤثران عليه نحوياً بنصبه: "إن زيداً ينطلق؛ قال إن زيداً ينطلق؛ وظن أن زيداً ينطلق"[31]. لكن تأثيرهما الدلالي يتمثل في أنهما تنقلان معنى التأكيد أو القول أو الظن ليخيم على الفعل "ينطلق" غير المتأثر شكلياً بوجودهما. وينطبق ذلك على "ليت" و"لعل" و"عسى" و"ربما" و"قلما" وغيرها مما يدخلونه في عداد الحروف. وفي ذلك نشير إلى أن أداة مثل"لعل" وإن نصبت الاسم (أو خفضته في بعض لهجات العرب) إلا أن عملها في التخصيص المقامي (المَقْيَمة) ينصبّ على الفعل: فعبارة "المطر سينزل" عندما تتحول إلى"لعل المطر سينزل" يحدث لها تغيير شكلي في الاسم إذ يتعرض للنصب (أو الجر حسب قول آخرين)، لكن مدلوله يبقي على حاله، وإنما يحدث التغيير الجوهري في دلالة الفعل التي تحولت من مقام[32] التقرير إلى مقام الرجاء أو الانتظار. وهذا ما نراه في الأمثلة التالية:
ربما يمدح
قد يمدح
لا يمدح
هلا يمدح
لولا يمدح
كان يمدح
سيمدح...الخ.

تأثر الفعل إعرابيا ودلالياً بالحرف:
أما بعض الحروف الأخرى فهي وإن خصصت الفعل إعرابيا إلا أن الأهم أنها تخصصه دلالياً: فحروف النفي تنفي الفعل، و"حتى" تحول الفعل من مقام التقرير إلى مقام الغاية "حتى يؤمنوا"، و"أنْ" تحوله من مقام التقرير إلى مقام المصدرية "أن تؤمنوا"، و"إنْ" تحوله إلى مقام الشرط، و "كي" تحوله إلى مقام الغرض:
إنْ يمدحْ = مقام المصدرية
لن يمدح = مقام النفي
ليمدحَ = مقام الغرض
ليمدحْ = مقام الطلب
حتى يمدح = مقام الغاية
كأنْ يمدح = مقام التشبيه

حاجة الفعل إلى التخصيص الدلالي بشتى العوامل:
يبقى الفعل أحياناً غير مكتمل الدلالة إلا بما يتلوه:
1. من حرف جر كما في "رغب عن الأكل" مقابلَ "رغب في الأكل"؛
2. أو مفعول مطلق: في قولنا "ضربني ضرب المنتقم" قد لا نقصد الإفادة بالضرب كحدث فحسب، بل أيضاً – وربما فوق ذلك - بنوع الضرب، وقد رأينا هنا أن وصف الضرب لا يكتمل بالفعل وحده. ونلاحظ أن المفعول المطلق لا يقف على رجليه بدون الفعل مثلما أن دلالة الفعل بدون المفعول المطلق قد لا تكون مطلوبة بالمرة، فقد يكون حدث الضرب معلوماً للمخاطب وإنما أراد المتكلم إخباره عن نوعه، فيكون الفعل في هذه الحالة ليس هو المسايق الرئيسي بل الثانوي أو التكميلي إزاء المفعول المطلق.
ملاحظة: عبارة "ضربني منتقماً" (= بيان سبب الضرب أو بيان حال الضارب) لا تعادل:
"ضربني ضربَ المنتقم" (= بيان نوع الضرب أو شدته).
3. أو عبارة تكميلية تكون جزءاً لا يتجزأ من دال الفعل: فجملة "أبقاه قيد/فرض عليه الإقامة الجبرية" تعبر بتضامن كل أجزائها المكونة لها عن معنى الحبس المنزلي، وليس الفعل "أبقى/فرض" هو ما يفعل ذلك. ومثل هذا الكثير من أفعال العبارة والعبارات الاصطلاحية مما سنعرض له لاحقاً في هذا البحث.

الحرف جسراً للتعدية:
أشار كثير من النحويين إلى دور الحرف في تعدية الفعل[33]. لكن تغير إعراب الاسم بعده يغري باعتبار أن الحرف يتعلق بالاسم دون الفعل. فالباء في "يمر بالدار" تتعلق في واقع الأمر بالفعل فتجعله يطال الاسم "الدار"، فإذا حذفت لا يعود الفعل يطال الاسم: "يمرُّ الدارَ*". فالفعل هنا إنما هو مجموع مكون من فعل+حرف: "يمر بـ"، وليس وحدة مفردة تقتصر على الفعل "يمر". فالباء هنا، وأمثالها من حروف الجر، تلعب دور الأداة النحوية، فلا تشارك في دلالة الفعل، بل في جعل السياق صحيحاً نحوياً وبالتالي دالاً (ملحوظة: ندرك مسبقاً أن الصحة النحوية وحدها لا تفي دائماً بغرض الدلالة). ونشير في هذا الصدد إلى ظاهرة جديدة، وإن تكن متفشية، في العربية الدارجة الحديثة حيث اكتسب حرف الجر"من" وبعض "المجاميع أو العبيرات الحرفية والظرفية[34]" أهمية في التعدية في جمل مبنية للمجهول "بناءً زائفاً":
- "هذا الحل سيُرْفَضُ من جانب/ من اللبنانيين"[35].
وقد يستخدمون لنفس الغرض «من جانب"، " مِن قِبَل"، "بواسطة":
- "وُضِعت (أو تم وضع[36]) حواجز أسمنتية من قبل سلطات الأمن"
- "أزيلت (أو تمت إزالة) كل الحواجز بواسطة المتظاهرين"


دور الحرف في تكوين جمل أكثر تعقيداً:
قال ابن جني في "باب التام يزاد عليه فيعود ناقصا" في كتاب الخصائص:
"هذا موضع ظاهره التناقض ومحصوله صحيح واضح وذلك كقولك "قام زيد" فهذا كلام تام فإن زدت عليه فقلت "إنْ قام زيد" صار شرطا واحتاج إلى جواب وكذلك قولك "زيد منطلق" فهذا كلام مستقل فإذا زاد عليه "أن" المفتوحة فقال: "أنَّ زيدا منطلق" احتاج إلى عامل يعمل في "أن" وصلتها فقال "بلغني أنَّ زيدا منطلق، ونحوه"[37].

الحرف "مولِّد معاني" :
قد يتعلق حرف الجر بالفعل فيتعدى مهمته في تخصيص طائلة الفعل ليحول معنى الفعل إلى معنى آخر لا يتسنى بدونه. فعبارة "قام المدير" تعني وقوف المدير، أما "قام المدير بـ" في جملة من نحو" قام المدير بإجراء" فتعني التصرف والفعل في دلالة قد لا تخلو من قيمة تقنية: فجملة "زار العاصمة" قد تصلح، أكثر ما تصلح، للسرد، في مقابل جملة "قام بزيارة العاصمة" التي تصلح، بالأحرى، للتقرير الرسمي، بالمعني التقني لمصطلح تقرير (الإداري، الصحفي...). ولا ينبغي أن يصرفنا الأثر النحوي الذي تعرّض له الاسم بسبب حرف الجر عن التعلق الأساسي لهذا الأخير بالفعل. وهذا الدور، المجهول للأسف، الذي يقوم به الحرف في توليد المعاني وإكثارها، هو مبرر وجود هذا البحث.

لهذه الأسباب، فإن تقسيم نحاة العربية الحروف إلى حروف عاملة وظيفتها الجر والنصب والجزم، وحروف مهملة[38] كهل الاستفهامية وواو العطف هو قول يختزل عمل الحرف في الجانب النحوي ويغفل دوره الدلالي إغفالاً تاما، على نحو ما سنرى في الأقسام القادمة من هذا البحثً.


















الفصل الثالث
في معاني حروف الجر

لإعطاء مثال يظهر لنا أهمية التمايز، وبالتالي، التمييز، بين حروف الجر، وأن استعمالها ليس خبط عشواء، فلنتأمل هاتين الآيتين من سورة النساء:
آية رقم 5:
"ولا تؤتوا السفهاءَ أموالَكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً"
آية رقم 6:
"وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً"

لماذا "ارزقوهم في" في الآية الأولى و"ارزقوهم من" في الآية الثانية؟
السبب جد بسيط: إن الأموال المعنية في الآية الأولى إنما هي أموال تخص "السفهاء"، لذلك فالتوجيه الرباني أن يرزقهم القائمون على تلك الأموال "فيها" (وليس "منها)، أي بالقدر الذي يحتاجونه لمعاشهم وكسوتهم، وفي استعمال "في" هنا إشارة بليغة إلى القائمين على أمر تلك الأموال بأن مجال الإنفاق على هؤلاء "السفهاء" واسع سعة المال الذي هو مالهم، فينبغي أن يرزقوهم طالما بقيت لهم حاجة لمعاشٍ أو لكسوة؛ وهذا بالضبط ما تفيد به "في" التي تدل على "التمكن من المكان"، ما يعني أن مجال الزرق يشمل المال كله:
في المال = فيه كله.
أما الأموال المعنية في الآية الثانية فهي ليست أموال أولئك الأقرباء واليتامى والمساكين، بل أموال أهل الميراث، لذلك فإن نصيب أولئك ليس "متمكناً" في المال كله، بل هو جزء "يسير" منه، وهذا بالضبط ما يفيده حرف الجر "من" الذي يدل على التبعيض:
من المال = جزء منه.

وهكذا نرى أن استعمال حروف الجر ليس خبط عشواء (كما هو الحال في معظم كتاباتنا اليوم)، بل فيه مجال كبير للبلاغة، بل للإعجاز الخطابي. فلكل حرف من حروف الجر معناه وسياقاته التي يكون فيها أولى بها من غيره.

إن جملة ما نستخلصه من كتب التراث النحوي العربي[39] حول معاني حروف الجر هو يما يلي:
1/ مِــنْ
1- للتبعيض (أخذت من المال)؛
2- ابتداء الغاية مكانا وزمانا (من بغداد إلى الكوفة)،
3- لتبيين الجنس: (ثوب من خز)، ومن ذلك أيضاً بيان نوع ما سبق إجماله كما في (ما يرزقنا الله من مطر وزرع) فهنا بيان لنوع الرزق.
4- استغراق الجنس كله: (ما اتخذ الله من ولد).

ملاحظة
لربما كان قولنا (ما جاء رجل) لا ينفي (بالمنطق الخارجي، أو بجمود التفسير القانوني، أو، على الأقل، "بالمماحكة"،)، مجيء رجلين مثلاً: (ما جاء رجلٌ "واحدٌ فحسب بل جاء رجلان"). لذلك فإن قولنا (ما جاء من رجل) ينفي مجيء الرجل وينفي معه مجيء جنس الرجال قاطبة. وهذا ما نفهمه من صاحب حروف المعاني[40] في حديثه عن حرف الجر "من" في الآية الكريمة: "وتكون واقعة في أعم الواجب دالة على أن ما بعدها واحد في معنى جنس، كقولك: "ما جاءني من رجل" فقد نفيت قليل الجنس وكثيره، والواحد وما فوقه، وعلى هذا مخرج "من" في قول الله تعالى: "ما اتخذ الله من ولد". فـ "مِن ولدٍ" تنفي جنس الولد، مذكره ومؤنثه.


2/ الباء:
1- معناها الإلصاق كقولك: كتبت بالقلم أي ألصقت كتابتي به
وكقولك مررت بزيد؛ وقد تقع مكان من كقوله تعالى: "يشرب بها عباد الله".
حروف المعاني ج1/ص47

"والباء معناها الإلصاق كقولك: "به داء" أي التصق به وخامره؛ و"مررت به" وارد علي الإتساع والمعنى: التصق مروري بموضع يقرب منه؛
2- ويدخلها معنى الاستعانة في نحو: "كتبت بالقلم" و"نجرت بالقدوم" و"بتوفيق الله حججت" و"بفلان أصبت الغرض"؛
3- ومعنى المصاحبة في نحو: "خرج بعشيرته" و"دخل عليه بثياب السفر" و"اشترى الفرس بسرجة ولجامه"؛
4- وتكون مزيدة في المنصوب كقوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، وقوله تعالي: "بأيكم المفتون"". المفصل ج1/ص381

ملاحظة:
لا يخفى على أحد أن "الإلصاق" في مثال الكتابة بالقلم الذي ساقه صاحب الحروف واستعبر[41] له بقوله: "كتبت بالقلم أي ألصقت كتابتي به" يحتوي على تعسق غير مقبول. لكن سرعان ما فصّل صاحب المفصل الأمر، فأضاف "الاستعانة" و"المصاحبة". وهكذا ما أن يتعثر أحد النحاة حتى يهب آخر فيقيل عثرته. مع ذلك، فإننا نشك في أن تكون الباء في "ولا تلقوا بأيدييكم إلى التهلكة" مزيدة هكذا بلا طائل. بل نعتقد أنها، بما تفيده من معنى الإلصاق، تساعد في تصوير عملية "إلقاء الأيدي إلى التهلكة": كأنما الأيدي يحملها الناس حملاً ثم يلقون بها إلى التهلكة. ومصداق ذلك أننا نلاحظ، من جانب آخر، أن استعمال "إلى" في نفس الآية هو أيضاً استعمال غير اعتيادي. فالشخص إنما يلقي الشيء "في" الشيء أو "عليه" (ألقاه على الأرض، في بئر)، لكن يلقي الشيءَ "إلى" الحيوان المفترس، مثلاً، فكأن استعمال "إلى" يجعل من التهلكة، ليس مكاناً ما، بل حيواناً مفترساً يلقي الناس إليه بأياديهم طواعية.

3/ إلى
1-" منتهي الغاية، كما في قولهم (إليهم!) أي سر إليهم فهم غايتك.
2- المصاحبة: (لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) إي مع أموالكم". حروف المعاني ج1/ص65

ملاحظات
من الممكن ألا تعني "إلى" في هذا السياق بالضرورة المصاحبة أو معنى "مع". فـ "أكل الأموال" أجدر أن يخص أموال الغير، والشخص إنما يأكل من ماله، ولا يأكل ماله، أي لا يأكله بالمعنى المحرم الوارد في هذه الآية وآيات أخرى (ولا تأكلوا أموال اليتامى). ثم إن "أكل أموال الغير" لا يعني بالضرورة المعنى الحرفي، إذ يكفي أن يضيفها الشخص إلى ماله فيكون "أكلها". لذلك نعتقد أن المعنى المقصود في الآية هو: لا تضيفوها إلى أموالكم وتجعلوها منها وتتصرفوا فيها على هذا الأساس. وهذا يتفق مع ما اشترطه ابن جني في إحلال حرف مكان حرف من أن يكون الفعلان بنفس المعنى لكن يختلفان في الحرف المصاحب18. هذا، ونستغفر الله من الزلل وهو أعلم.

4/ حتي:
حتى تكون عاطفة وناصبة وجارة بمعنى انتهاء الغاية كقولك: "سار الناس حتى زيد". حروف المعاني ج1/ص64
وهي بمعنى "إلى" في قولك "سرت حتى الخرطوم" وتزيد هنا على "إلى" بكونها تنوه بالبعد أو تبالغ فيه.

ونلحظ فرقاً مماثلاً بين "حتى" و "كي": فعبارة "حتى يؤمنوا" تشير إلى الغرض بوصفه غاية (غرض نهائي)، أما كي "كي يؤمنوا" فتشير إلى الغرض مجرداً.

5/ فـــي[42]:
"تفيد التمكن من المكان" حروف المعاني ج1/ص38

وتفيد الزمان أيضاً (في يوم كذا).

6/ لـِـ
تعبر لام الجر عن الإضافة الدالة على:
1- الملك: (دار لزيد)
2 - والنسب (رب أخ لك..)
3- الاستحقاق: (وللكافرين عذاب مهين)
4- التخصيص: (مسجد للشيعة)
5 - والفعل نحو (حبك لله)

7/ عن:
1- المجاوزة والبعد: كما في: فسار عنها إلى دمشق، وكما في: إليك عنى!
2- "وتفيد الصرف: كقول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم"
حروف المعاني ج1/ص38

ملاحظات: كثيراً ما يخلط الناس بين استعمال "من" و"عن". إذا كانت الاثنتان تشيران إلى البداية والمنطلق، فإن "من" تكون دائماً "متمكنة" من هذه البداية أو هذا المنطلق، أي أنها تبدأ من "داخلهما"، بعكس "عن" التي ربما لا تفيد "التمكن" بقدر ما تفيد "الاقتراب-الابتعاد" و"التهويم حول". فلنلاحظ الفرق بينهما في هذين المثالين:
1- "سار عن الكوفة إلى بغداد" = إن معنى المجاوزة في "عن" يوحي إما
بالمفارقة والقطيعة، أي يمكن أن نفهم من "سار عنها" أنه سافر منها سفراً يشوبه قدرٌ من التوتر: كراهية البقاء فيها/ الخوف من البقاء فيها...الخ؛ وإما
بأنه (وإن لم يكن بالضرورة) ربما لم يدخل الكوفة إذ قد يكون عدل عن دخولها في آخر لحظة، واستعاض عنه بالتوجه نحو بغداد: سار عنها = ابتعد عنها
2- "سار من الكوفة إلى بغداد" = لا توحي "من" بأي معنى "إضافي" على نحو ما فعلت "عن": بدأ الانطلاق من (داخل) الكوفة وانتهى في بغداد.

هذا، ويمكن القول إن معنى "عن" في بعض السياقات يفيد التسلسل، كما في "عن فلان عن أبيه عن جده..." و "كابر عن كابر".


8/ بين[43]: لها أربعة مواضع:
تكون اسما معربا بما يصيبه من الإعراب
وتكون بمعنى الوصل و هي اسم أيضا
وتكون بمنزلة مع وعند فتكون ظرفا
وتكون بمنزلة الفوق فتكون اسما ومصدرا
فأما إذا كانت اسما معربا كقولك مررت برجل احمر بين عينيه رفعت البين لأنه الجلدة التي بين عينيه وهو موضع كما تقول مررت برجل غلام أبيه ظريف، وإذا كانت وصلا كقولك بينهم حسن تريد وصلهم حسن كما قال عز وجل لقد تقطع بينكم معناه لقد تقطع وصلكم
حروف المعاني ج1/ص28

9/ على: الاستعلاء (على الأرض، "الرحمن على العرش استوى")

ملاحظات
ينبغي أن نفهم الاستعلاء بمعنى "الإظلال" أو التّماس أو الالتقاء (ليس بمعنى العلو والسمو كما "الرحمن على العرش استوى") في سياقات مثل "هو على دين كذا" و"اتفقوا على" و"أجمعوا على"، و"على أساس كذا"، و "وقع على الأرض". أما "على "في "حكم على" و"عليّ وعلى أعدائي" فهي بمعنى الإضرار والإرهاق.

"على لها ثلاثة مواضع تكون اسما وفعلا وحرفا
فالفعل قولك: "علا فلان"
والحرف قولك: "على زيد مال"
والاسم قولك: "جئت من عليه" بمعنى: من فوقه
وتجيء في مكان "من"، قال الله تعالى: "إذا اكتالوا على الناس يستوفون"، أي: من الناس
وتقع بمعنى "عند"، كقوله تعالى: "ولهم علي ذنب"، أي عندي"
حروف المعاني ج1/ص23

ومن معاني "على" الطريفة أنك إذا قلت: "انهدم عليهم بيتهم" لم تقصد بالضرورة وقوع البيت مادياً على رؤوس ساكنيه، بل تشير إلى الأثر الواقع عليهم من جراء فقدانهم البيت. أما إذا أردت السقوط المادي للبيت على رؤوس أصحابه فالأصح أن تقول "انهدم فوقهم". لكي نفهم ذلك لنستمع إلى شرح ابن جني:

"وكذلك قوله عز اسمه: "فخر عليهم السقف من فوقهم" قد يكون قوله: "من فوقهم" مفيدا وذلك أنه قد يستعمل في الأفعال الشاقة المستثقلة على قول من يقول قد سرنا عشرا وبقيت علينا ليلتان وقد حفظت القرآن وبقيت على منه سورتان وقد صمنا عشرين من الشهر وبقى علينا عشر وكذلك يقال في الاعتداد على الإنسان بذنوبه وقبيح أفعاله قد أخرب على ضيعتى وموت على عواملى وأبطل على انتفاعى فعلى هذا لو قيل فخر عليهم السقف ولم يقل من فوقهم لجاز أن يظن به أنه كقولك قد خربت عليهم دارهم وقد أهلكت عليهم مواشيهم وغلاتهم وقد تلفت عليهم تجاراتهم فإذا قال من فوقهم زال ذلك المعنى المحتمل وصار معناه أنه سقط وهم من تحته فهذا معنى غير الأول اطردت على في الأفعال التي قدمنا ذكرها مثل خربت عليه ضيعته وموتت عليه عوامله ونحو ذلك من حيث كانت على في الأصل للاستعلاء فلما كانت هذه الأحوال كلفا ومشاق تخفض الإنسان وتضعه وتعلوه وتفرعه حتى يخضع لها ويخنع لما يتسداه منها كان ذلك من مواضع على ألا تراهم يقولون هذا لك وهذا عليك فتستعمل اللام فيما تؤثره وعلى فيما تكرهه". الخصائص ج2/ص 270-271

بهذا الفهم لمعاني "على" و"عن" يمكننا "تقعيد" بعض الاستخدامات الجديدة لهذين الحرفين. على سبيل المثال، ما الفرق بين "ترتّب عنه عواقب وخيمة" و"ترّتب عليه عواقب وخيمة"؟
إن معنى "الإضرار" في "على" يوحي بأن "ترتب عليه" تفيد بموضع وقوع تلك العواقب المترتبة، أي أنها وقعت على الشخص المشار إليه بالضمير في "عليه"، بمعنى أن وقوعها كان ضده أو في غير مصلحته؛ أما "ترتب عنه" فإنها لا تشير إلى موضع وقوع العواقب بل إلى المصدر الذي نجمت عنه تلك العواقب، وذلك المصدر هو ما يشير إليه الضمير في "عنه". إذن:
ترتب عن ذلك القرار عواقب وخيمة = مصدر العواقب الوخيمة هو القرار
ترتب عن ذلك القرار عواقب وخيمة على الاقتصاد = عواقب القرار تضرر منها الاقتصاد.

لكننا، مع الأسف، نستمر نسمع عبارات من نحو "ترتبت عواقب وخيمة على ذلك القرار"، وكأن القرار هو المتضرر من العواقب.

وعلى أساس ما سبق، نلاحظ أن "على" إذا كانت تفيد الاستعلاء، كما في "الرحمن على العرش استوى"، و"الإضرار"، كما في "عليّ وعلى أعدائي/ على نفسها جنت براقش/ حكم عليه بالسجن"، فإنه يمكن القول أيضاً إنها تفيد "الاستقرار" كما في "جلس على الكرسي" أو في عبارة "على أساس كذا". هذا، ومن الممكن بالطبع إعادة قراءة هذه القيم التي تعبر عنها "على" ورؤيتها بطريقة مختلفة.


10/ دون: "دون تكون اسما وظرفا
أما كونها اسما فإذا أردت جهة الدناءة والضعة كقولك: "إنه لدون من الرجال"؛
قال الشاعر:
وإذا ما نسبتها لم تجدها
في نضاء من المكارم دون
وكونها ظرفا كقولك: "جلست دونك" فهي تقتضي التقصير عن الغاية إما في المنزلة أو في القرب والبعد".
حروف المعاني ج1/ص23

إحلال الحروف
أشار النحاة إلى إحلال حرف محل حرف، يقول صاحب معاني الحروف:
"في تكون بمعنى "نحو": "قد نرى تقلب وجهك في السماء"
وبمعنى الباء: "في ظلل من الغمام"
وبمعنى "إلى": "فتهاجروا فيها"
وبمعنى "من": "يخرج الخبء في السماوات"
حروف المعاني ج1/ص84
اللام بمعنى "عند"، كما في قوله تعالى: "وخشعت الأصوات للرحمن"

والباء بمعنى عند: "والمستغفرين بالأسحار"
وبمعنى "في": "بيدك الخير"
وبمعنى "إلى": "ما سبقكم بها من أحد"
وتحل "إلى" محل "عند" أيضاً كما في قول إبي كبير:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
أشهى إلي من الرحيق السلسل "
حروف المعاني ج1/ص87
...الخ.

وهذا باب طويل، على ما ذهب إليه ابن جني، وفيه الكثير من الغث والقليل من السمين. فعلى سبيل المثال، قول صاحب الحروف إن "في" جاءت بمعني "إلى" في قوله تعالى: "فتهاجروا فيها" لا يستقيم، إذ أن الحديث إنما هو عن الأرض، فلا يعقل أن يقال "تهاجروا إلى الأرض" إلا إذا كانوا في كوكب آخر غيرها، طالما أن معنى "إلى" هو المجاوزة.


أما قوله إن "إلى" في "أشهى إليه" حلت محل "عند" فنحن نفضل فيه، أيضاً، الأخذ بقاعدة ابن جني في إحلال الحروف. إذ نلاحظ أن الحب والميل والرأي أمور تعود "إلى" الشخص المعني، وتكون "بالنسبة إليه وإلى ذوقه ورأيه"؛ لذلك جاء في الآية 33 من سورة يوسف "ربِ السجن أحب إلى مما يدعونني إليه"، ولم يقل "أحب عندي"، ويقولون "مال إلى كذا" و"ذهب في الرأي إلى كذا". إذن، فإن من الممكن القول إن "إلى" تفيد الميل، حقيقةً ومجازاً.
وهكذا، مع ما أفردوه للحروف من معان، فإن ثمة منهم مَن يقول إن الحروف يحل بعضها محل بعض هكذا اعتباطاً تقريباً. بيد أن ابن جني تحفظ على هذا القول الذي يمس بقيمة الضبط الدلالي في اللغة، قائلاً:
"ألا ترى أنك إن أخذت بظاهر هذا القول غفلا هكذا لا مقيدا لزمك عليه أن تقول "سرت إلى زيد" وأنت تريد معه، وأن تقول: "زيد في الفرس" وأنت تريد عليه، و"زيد في عمرو" وأنت تريد عليه في العداوة، وأن تقول "رويت الحديث بزيد" وأنت تريد عنه، ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش، ولكن سنضع في ذلك رسما يعمل عليه ويؤمن التزام الشناعة لمكانه"[44].
ثم وضع قاعدة لضبط تبادل الحروف:"اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر؛ فلذلك جئ معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه؛ وذلك كقول الله عز اسمه: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، وأنت لا تقول "رفثت إلى المرأة" وإنما تقول "رفثت بها أو معها"، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء وكنت تعدى "أفضيت" بـ "إلى"، كقولك "أفضيت إلى المرأة" جئت بـ "إلى" مع الرفث إيذانا وإشعارا أنه بمعناه".

واستنكر ابن جني في السياق نفسه القول بزيادة الحروف لما في ذلك من الإجحاف بدلالة الحروف:
"أخبرنا أبو علي – رحمه الله – قال قال أبو بكر: "حذف الحروف ليس بالقياس"، قال وذلك أن الحروف إنما دخلت الكلام لضرب من الاختصار فلو ذهبت تحذفها لكنت مختصرا لها هي أيضا واختصار المختصر إجحاف به. تمت الحكاية. وإذا قلت أمسكت بالحبل فقد نابت الباء عن قولك أمسكته مباشرا له وملاصقة يدى له وإذا قلت أكلت من الطعام فقد نابت "من" عن "بعض" أي أكلت بعض الطعام[45]".

***

هذا زبدة ما خرجنا به من النظر في التراث العربي فيما يتعلق بالحروف عامة وحروف الجر على وجه الخصوص.

هذا، ويجدر بنا التنويه، مرة أخرى، بأن النظر النحوي القديم لا يمثله كتاب واحد، ولا كاتب واحد، ولا مدرسة واحدة. وربما يحلو لنا ولغيرنا أن نستنكر رأياً نقع عليه في كتاب من كتب النحو القديمة، فنسرع إلى انتقاده وإثبات ما يناقضه. لكننا إذا تقصينا آراء النحاة وعلماء العربية من لدن عصر بني أمية إلى عصر المماليك، ومن العراق وصولاً إلى الأندلس، لوجدنا إن كثيراً مما يعن لنا من آراء منتقدة إنما قد سبقنا إليها أولئك الجهابذة إما تصريحاً أو تلميحاً أو إرهاصاً. فنحن، على سبيل المثال، أنكرنا على النحاة قولهم باختصاص الحرف بالاسم دون الفعل، لكن كان من بين النحاة القدماء أنفسهم من قد تكلم في دور حروف الجر في تحقيق التعدية، فها هو صاحب "الأصول في النحو" يشير إلى علاقة الباء وبالفعل: " وأما وصلها الفعل بالاسم فقولك مررت بزيد فالباء هي التي أوصلت المرور بزيد"[46].
وكما أنكرنا من قبل قولهم بإحلال الحروف بعضها محل بعض اعتباطاً تقريباً، فأننا لم نأت بأفضل مما سبق إليه فقيه العربية الأول، في رأينا، أبو الفتح عثمان ابن جني في الخصائص: "هذا باب يتلقاه الناس مغسولا ساذجا من الصنعة وما أبعد الصواب عنه وأوقفه دونه".[47]





















القسم الثالث
حول مفهوم الفعل

الفصل الأول
مكونات دلالة الفعل
لا وجود لقسم من أقسام الكلام ولا وظيفة له إلا من حيث تفاعله مع غيره مع الأقسام في سياق الجملة. فالفعل يحتاج إلى كل أقسام اللغة لكي يكون له وجوده ويؤدي وظيفته. ولكي يلعب الفعل دوره في التعبير عن دلالته يستعين بجملة من الخصائص الذاتية واللوازم السياقية والظرفية التي نجملها فيما يلي:

1/ الخصائص الذاتية: تتحدد الخصائص الذاتية بحكم التركيب الصرفي للفعل:
1- الدلالة على الحدث: يأكل ← الأكل، يقرأ ← القراءة
2- الإفعال: نقصد به طريقة تحقق الحدث الذي يعبر عنه الفعل بحكم معناه وبحكم طبيعته الثابتة والمفهومة لدى المتحدث والمخاطب. الإفعال في الفرنسية والإنجليزية هو، على التوالي، "mode d’action" و”mode of action”. فقولنا "تعرجَ الدرب" لا نفهم منه "حدوث التعرج"، أي أن الدرب كان مستقيماً ثم تعرج، بل نفهم منه الاتصاف، اتصاف الدرب بالتعرج؛ وإذا قلنا "تكسّر" أشرنا إلى حدث "كَسْر" مفرد يختلف عن الكسر المتعدد في "تكسّر"، وإذا قلنا "كسى" فهمنا وجود فاعلين اثنين أحدهما أعطى الكسوة والآخر لبسها، وفعلان هما بالطبع تقديم الكسوة من المعطي ولبسها بواسطة المعطى إليه. ويشمل الإفعال الزمن الإفعالي أو الزمن الداخلي للفعل، ونقصد به الزمن الذي يستغرقه حدث الفعل، وهذا لا علاقة له بالزمن الخارجي سواء كان صرفياً أم نحوياً أم ظرفياً (على نحو ما سنرى بعد قليل). فإذا قلنا "انفجر إطار السيارة" علمنا أن حدث الفعل هو الانفجار وهو لا يستغرق إلا ثوان؛ وإذا قلنا "أكل تفاحة" فهمنا أن أكل تفاحة لا يستغرق سوى دقائق معدودة؛ أما إذا قلنا تآكل الصنم، فإننا نفهم بالضرورة أن حدث التآكل لا يتم إلا عبر سنوات طويلة.

3- الإسناد (البناء للمعلوم/المجهول): فَعَل/ فُعِل
4- الزمان الصرفي: فعل (ماض)، يفعل (حاضر أو مستقبل)

بيد أن الخصائص الذاتية للفعل لا تفي وحدها بأغراض المتكلم في توصيل فكرته التي لا يمكن أن تنحصر في مجرد الإبلاغ بالحدث وطريقة إفعاله وزمنه الداخلي، بل يحتاج المتحدث إلى استخدام رزمة من اللوازم السياقية لتوصيل الرسالة الكاملة التي يريد التعبير عنها:

2/ اللوازم السياقية (أو التركيبية أو الظرفية):
1. الإيعاب: (انظر القسم السابق) هو حالة التجسد الفضائي ، غير الزمني لحدث الفعل ، وهو يتعلق بكيفية استيعاب الفعل لحدثه من حيث اكتمال ذلك الحدث أو عدم اكتماله، واستمراره من عدمه، واتصاله بلحظة التكلم أو الانقطاع عنها، ومن حيث علاقته بالأحداث الأخرى في تسلسلها (سابق، تالٍ) وخلاف ذلك من القيم غير الزمنية. ويستخدم الفعل عدداً من التشكيلات التركيبية للوفاء بالإيعاب والزمن:
- الصيغ الفعلية الصرفية (البسيطة) : دلالة الصيغ البسيطة لا تكتمل إلا بالسياق:
ذهب = ماض منقطع عن الحاضر
يذهب = حاضر مستمر أو متكرر
ذاهب (اسم الفاعل يتضمن قيمة فعلية) = الحال (الحاضرة: أنا ذاهب الآن)،
و حكاية الحال الماضية أو الحال المستقبلة (قابلته وأنا ذاهب/ستقابله وأنت ذاهب)، ونفضل تسميته بـ "التحالل/[48]"، على زنة "تزامن" شكلياً، و في مفارقة له دلالياً، إذ أن التحالل هو "التزامن" في الفضاء لا في الزمان.
- الأدوات الإيعابية: قد ذهب = ماضٍ مستحضر (أي متصل بالحاضر من خلال نتيجته الماثلة): قد ذهب، إذن هو غير موجود هنا الآن. ومثل "قد" أداة النفي "لمّا" في: لمّا يفرغ من عمله = ما زال يعمل؛
- الأشكال الفعلية النحوية (المركبة) : كان يذهب = ماض منظور إليه في حالة استمراره
كان ذهب = ماض سابق
- السوابق (سوف والسين): عندما يصل، سأكون فرغت من العمل = مستقبل سابق (أي إن فعل الفراغ سيقع قبل فعل الوصول في المستقبل).
- التراكيب النحوية (مثل التراكيب الحالية والظرفية): وهو يأكل؛ فيما/بينما هو يأكل[49]

2. المقام: (انظر القسم السابق) نقصد به كيفية النظر إلى الحدث الذي يعبر عنه الفعل: هل ننظر إليه كحدث موضوعي، أم كفكرة ذهنية بغض النظر عن حقيقة وجودها في الواقع، أم كشرط، أم كأمنية...الخ:
- مقام التقرير(النظر الموضوعي للحدث إثباتاً ونفياً وتأكيداً[50]: يأكل/أكل/سيأكل الولد التفاحة)؛
- مقام الشرط (إذا أكل الولد التفاحة....)
- المقام السائب[51] أو مقام المصدرية (النظر إلى الحدث كفكرة مجردة: أنْ يأكل الولد التفاحة، هذا أمر اعتيادي)
- مقام التمني (ليت الولد يأكل التفاحة)
- مقام الرجاء: (عسى أن يأكل...)...الخ.
- مقام الاحتمال/الإمكان/التوقع: قد يأتي، ربما يأتي، يمكن أن يأتي، من الممكن/ من المحتمل/من المتوقع أن يأتي
- مقام الطلب: (كلْ التفاحة)
- مقام النهي: لا تأكل
- مقام الحض: هلا يأكل
- مقام الزجر: هلا أكلت (أو عن طريق التأويل: لمَ لا تأكل!)
- مقام التأكيد: والله لقد أكل/ والله ليأكلنَّ التفاحة
- مقام الاستفهام: هل/متى/ لمَ...يأكل؟
- مقام الاستنكار: أتأكل واقفاً!
...الخ. في بعض اللغات يكون للمقام، أو لبعض أنواعه، صيغ وتراكيب نحوية ثابتة. أما في العربية ولغات أخرى فإن المقام يفهم من خلال التركيب السياقي (وجود أدوات بعينها مثل لعل، عسى، ليت، إذا...) أو من خلال السياق والمعنى والنبرة... وقد حاول بعض المستعربين والمستشرقين النظر إلى حالات إعراب الفعل المضارع، في غير قليلٍ من التعسف، بوصفها دوال مقامية: يذهبُ = مقام التقرير(indicatif)، أن يذهب = مقام الذاتية(subjonctif) ، إنْ يذهبْ = مقام الشرط(conditionnel) [52] .
3. العلاقة الإسنادية: تتحقق العلاقة الإسنادية صرفياً (البناء للمجهول/ المعلوم) ومن خلال المسايقات النحوية (الفاعل/ المفعول/نائب الفاعل)
4. التعبير عن الزمن: (الزمن الصرفي: يأكل، أكل؛ الزمان النحوي: كان يأكل، كان أكل، كان سيأكل؛ الزمن الأداتي: سيأكل؛ والوقت القاموسي /الزمن الظرفي: صباحاً، الساعة السادسة، قبل الآخرين؛ الزمن السياقي الإيعابي: دخلت عيه وهو يأكل، (وقد أشرنا من قبل إلى الزمن الإفعالي: انفجر، أكل، تآكل).

هذا، بالإضافة إلى:
5. الظرفية الزمانية والمكانية: في المطعم، على الطاولة = ظروف الزمان والمكان والتعابير الظرفية الدالة على الزمان والمكان.
6. الكيفية الظرفية العامة: أكل أكل الجائع/ قليلاً/ سريعاً، أكل في جماعة، ...الخ = الحال، المفعول المطلق...الخ
7. الكيفية الأداتية: (أكل بالشوكة، بيده،...الخ)
8. السبب، الهدف والغاية، والنتيجة: جاع فأكل؛ أكل لكي يشبع؛ أكل حتى شبع....
...الخ.
إذن لكي يتسنى للفعل الدلالة على كل ذلك فإنه يضع تحت تصرفه، إضافة إلى خصائصه الذاتية، كل أقسام الكلام وخصائص اللغة الصرفية (مغايرة الحركات وإلحاق الزوائد) والنحوية (الإعراب الإسنادي كرفع الفاعل ونائبه ونصب المفعول؛ والإعراب بالأدوات المخصصة، مثل لام التعليل؛ والتخصيص بالأفعال والأدوات المساعدة: كان، أصبح، قد، ربما...الخ) والإمكانات الأسلوبية والبلاغية المتوفرة في اللغة.

بعد هذا التقديم العام حول مقومات دلالة الفعل، سوف نعمد في الفصل التالي إلى تلخيص السلوك الدلالي للفعل.




















الفصل الثاني
السلوك الدلالي للفعل
ننظر إلى الفعل كصيغة وكشكل على ضوء أنموذج، ينقسم في الحقيقة إلى أنموذجين: صرفي ونحوي. الأنموذج هو القالب أو المثال النظري الذي يتصرف الفعل بموجبه إلى صيغ وإلى أشكال. تتمثل صيغ الفعل، على ضوء أنموذجه، في:
(1) صيغة مجردة أو جذرية واحدة (مثال: عرض)، يكون لها، كما هو معروف، أشكال دالة على الزمن والإيعاب؛ هذه الأشكال أما أن تكون بسيطة (عَرَضَ/يعرض) وإما مركبة (كان يعرض، كان عرض..)؛
(2) صيغٍ اشتقاقية متعددة (عارض، عرَّض، اعترض...الخ) تنقسم بالطبع إلى نفس الأشكال البسيطة والمركبة (عارض، يعارض، كان يعارض...).
إذن فالصيغة إما مجردة (عرض) وإما اشتقاقية (تعرض، عارض...)، وهي المثال المادي، أو اللفظي الأساسي، الذي يتصرف منه الفعل إلى أشكال؛ والشكل هو المثال المادي النهائي لتصريف الفعل. على ضوء ذلك، تكون "عَرَضَ" هي صيغة الفعل الجذرية التي تنقسم بدورها إلى أشكال بسيطة: شكل الماضي (عَرَضَ)، وشكل الحاضر (يَعْرِض) والمستقبل (س/سوف يعرض) – إضافة إلى "مقام" الأمر: أعرضْ- وأشكال مركبة (كان يعرض، كان قد عرض...). أما الأنموذج فما هو إلا الكيفية أو الآلية النظرية التي تحكم اشتقاق الفعل وتصريفه إلى صيغ وأشكال. والصيغة والشكل هما مادتان من لحم اللغة (بعكس الأنموذج الذي هو قالب عام)، والفرق بينهما أن الصيغة مادة أولى (عرض، عارض) قابلة للتصريف إلى الأشكال، بينما تمثل الأشكال المادة النهائية (عرض، قد عرض، يعرض، كان يعرض، كان عرض،...الخ). ولا بد أن نكون لاحظنا التداخل بين الصيغة والشكل في مستوىً ما: "عرَضَ" و"تعارض" هما صيغتان فعليتان على المستوى القاموسي أو مستوى الكلم، ويحكمهما الأنموذج الصرفي (تقابلان صيغ فعلية أخرى في القاموس مثل: اعترض، قابل، أخذ...) لكنهما على المستوى السياقي أو النصي أو مستوى الكلام، فهما شكلان فعليان يحكمهما الأنموذج النحوي (يقابلان أشكال فعلية أخرى مثل: يعرض، يتعارض، كان يعرض، كان قد تعارض...). وتنقسم الأشكال إلى بسيطة (أشكال صيغية أو صرفية، أي تنتمي إلى النموذج الصرفي: عرض، يعرض، اعرض) ومركبة (أشكال قالبية أو نحوية، أي تنتمي إلى الأنموذج النحوي: سيعرض، قد عرض، لمّا يعرض، كان يعرض، كان قد يعرض، كان سيعرض، كان لَيعرض...). وعلى هذا الأساس فإن النموذج الصرفي يشبه ما يعرف في اللغات الأوربية بالـ paradigme والأنموذج النحوي يشبه الـ syntagme.
هذا هو جملة ما يمكن قوله في دوال الفعل وفقَ أنموذجه الصرفي النحوي. لدينا، إذن، دوال فعلية صرفية (عرض، تعارض) ودوال فعلية نحوية (قد تعارض، كان يتعارض، كان قد تعارض). لكن لما كان الصرف فرعاً من النحو، فيمكننا أن نجمع القسمين معاً فنقول دوال نحوية (من أجل معارضتها، مثلاً، بدوال فعلية غير نحوية). ولما كان الغرض من هذه الدوال الفعلية النحوية التعبير عن الزمن والإيعابية، فمن الممكن أيضاً أن نطلق عليها دوال فعلية زمنية وإيعابية = تزمينية[53] (لمعارضتها بدوال فعلية لا تعبر عن الزمن والإيعاب). إذا أخذنا جملتي "قام بها" و"قام عليها"، لا من حيث دلالتهما على الزمن والإيعاب، بل من حيث وجود حرف جر في كلٍ منهما، سنلاحظ أن النحو لم يسهم بشيء في اختيار الباء في الجملة الأولى واختيار "على" في الجملة الثانية، إذّ هما لديه سيان: حرفا جر وظيفتهما خفض الاسم الواقع بعدهما. إذن فما الذي يحكم تركيب الجملتين واختيار حرف الجر لكل منهما؟ أنه علم الدلالة الذي يعرف أن "قام بها" تختلف، دلالياً، اختلافاً كبيراً عن "قام عليها". إذن سيمكننا القول إن "قامَ بـ" و"قام على" دالان فعليان دلاليان يوازيان "قام بها/ قد قام بها/كان يقوم بها" كدوال فعلية نحوية (أو إيعابو-نحوية، إذا جاز التعبير). وبالمثل، ليس النحو هو الذي يقرر تركيب الدال الفعلي في "قلب له ظهر المجن" أو في "وضع في الاعتبار". فلو قلنا "قلب له بطن المجن" أو "وضع فوق الاعتبار" فإن النحو لا يرى "بأساً" بذلك (طالما بقى الفاعل مرفوعاً، والمفعول منصوباً والمضاف مجروراً). لكن علم الدلالة يرى البأس، كل البأس في هذه "الفوضى التي لم تترك للدال مدلولاً ولا في القول مَقولاً". نستنتج من ذلك أنه بالإضافة إلى الأنموذجين الصرفي والنحوي الذين رأيناهما للتو يحكمان اشتقاق الفعل وتصريفه، فإن ثمة أنموذجاً آخر يلعب دوراً لا يقل أهمية في سلوك الفعل: إنه الأنموذج الدلالي. إنّ "قام بـ" و"قام على" تشكلان في الواقع إضافتين مهمتين إلى الأنموذج العام للفعل "قام" وتقفان على قدم المساواة، دلالياً، إلى جانب صيغ "قام" الأخرى: قام، استقام، أقام، قوّم، قام بـ، قام على. إذن فإن من الدوال الفعلية أيضاً تلك العبارات المتباينة التشكيل التي يدخل الفعل في تشكيلها ويكون لها مدلول يوازي مدلول الفعل المفرد:
1. الأفعال الحرفية: دال فعلي يتكون من: فعل+حرف جر، أمثلة: أثَّـرَ على، أثّـرَ في، رثا لـ (بمعنى أشفق على، في مقابل: رثا، أي قال رثاءً)، احتوى على (بمعنى تضمن، في مقابل: احتوى، بمعنى استوعب)، تكوَّن من (في إشارة إلى الأعضاء المكونين أو العناصر المكونة، في مقابل: تكوَّن، بمعنى التشكُّل والإنشاء والظهور إلى الوجود)...الخ؛
2. أفعال العبارة: دال فعلي في شكل عبارة (دون الجملة التامة التركيب) تدل دلالة الفعل، وتتكون من: فعل+ < حرف (أي ما هو أكثر من حرف: اسم، ظرف...الخ)، أمثلة: وضع في الاعتبار/أتاح الفرصة لـ/ لم يألُ جهداً في/ضرب الرقم القياسي في...الخ؛
3. العبارات الفعلية : جمل فعلية، اصطلاحية أو مجازية أو أسلوبية، إما متواترة الاستخدام بهيئتها وإما مأثورة: لم ينبس ببنت شفة، عاد بخفي حنين، يصطاد في الماء العكر...الخ.

وقلما نجد فعلاً يكتفي بدواله الأصلية (النحوية: الجذرية والاشتقاقية) مستغنياً بها عن دواله الفرعية (الدلالية).

من هنا يمكن أن نخلص إلى تخطيط لسلوك الفعل العربي من المنظورين الصرف-نحوي والدلالي:























الفعل:الأنموذج الكامل



الأنموذج الصرف-نحوي الأنموذج الدلالي
دال فعلي بسيط
دال فعلي مركب
دال جذري
"قام"
دوال اشتقاقية
"أقام، استقام...
أفعال حرفية أفعال عبارة عبارات
"قام بـ، "قام على فعلية
قام علىـ..." أكتاف، "قامت
لم تقم الدنيا
قائمة لـ...." ولم تقعد"
الصيغة المجردة "قام"
الصيغ المزيدة "أقام"
الأشكال
الأشكال البسيطة الأشكال المركبة
ماض حالي حاضر طلب
قام قائم يقومُ قُمْ
حالات مقامية (الشرط...الخ)/
نحوية أخرى: يَقُمْ، يقومَ



مقام الشرط
مقام التقرير
شرطي شرطي شرطي فرضي
ماض مستحضر مستقبل
لكان قام لكان قد قام كان/لكان يكون (قد) قام
كان قام كان قد قام سيقوم سيكون(قد) قام
كان سيكون قد قام




مستقبل مستحضر ماض ماض ماض ماض سابق ماض
حال مستمر سابق مستحضر مستقبل
سيقوم قد قام كان قائماً كان يقوم كان قام كان قد قام كان سيقوم
1 2 3 4 5 6 7





































بعد كل هذا، يبقى ثمة سؤال مهم: إذا كان علم الدلالة يتدخل "صرفيا" فيأتي بدوال فعلية جديدة تنافس صيغ الفعل البسيطة والاشتقاقية (قام، استقام، أقام في مقابل قام بـ، قام على)، فهل يتدخل أيضاً في الأشكال الفعلية الدالة على الزمن والإيعاب؟ الإجابة أن نعم: إن شكلاً إيعابو-زمني، أو تزمينياً، مثل: "سوف يذهب" سيكون بمقدورنا أن نعبر عن نفس معناه "دلالياً" بعدد كبير من الخيارات:
سوف يذهب = هو على وشك الذهاب/ مستعد للذهاب/ أوشك أن يذهب/ ما ثمة ما يؤخره عن الذهاب، قد دنا وقت ذهابه...الخ.
ومن ذلك أيضاً:
سينقرض = مآله/ مصيره إلى الانقراض؛ انقراضه حتمي؛ سنبكيه قريباً...
أنقرض = صار أثراً بعد عين
ستغرب الشمس = لقد آذنت الشمس بالمغيب
كان قد ذهب = سبق له الذهاب

أو كما سيرد في الجدول أدناه:
جدول بالأشكال التزمينية ومقابلاتها الدلالية:

- ماض (بسيط/منقطع) = ذهب (مقابل دلالي: أؤكد ذهابه!)
- حاضر مكرر/ مستمر = يذهب، مازال يذهب (مقابل دلالي: هو متعود على الذهاب/ هو الآن في طريقه إلى...)
- حاضر حالي = ذاهب (مقابل دلالي: هاهو الآن في طريقه إلى ...)
- ماض حالي = كان ذاهباً (مقابل دلالي: كان في طريقه إلى...)
- سيذهب/ سوف يذهب/ذاهب = مستقبل (مقابل دلالي: هو على وشك الذهاب...)
- ماض مستحضر = قد ذهب، لمّا يذهب ( مقابل دلالي: أؤكد ذهابه الآن/ هو غير موجود الآن)
- ماض مستمر = كان يذهب، ومنه أيضاً: كان ما زال يذهب (مقابل دلالي: تعود/كان من عادته أن يذهب.
- مستقبل ماض/ مستقبل شرطي = كان سيذهب (مقابل دلالي: كان ذهابه ممكناً لولا...، كان من المقرر أن يذهب...)
- ماض سابق منقطع = كان ذهب (مقابل دلالي: سبق له أن ذهب)
- لكان (كان) ذهب = ماض شرطي (متعذر بالضرورة): لو تركتموه لكان ذهب، أي ذهاب "منقطع" لم يصرح السياق بنتيجته. ومثله: لولا ذلك لما كنت تركته. (مقابل دلالي: كان ذهابه مضموناً لولا..)
- لكان (كان) قد ذهب = ماض شرطي مستحضر(متعذر بالضرورة): لو تركتموه لكان قد ذهب، أي ذهاب له نتيجة ماثلة: كونه لا يعود موجوداً في المكان الذي كان فيه قبل ذهابه المفترض. (مقابل دلالي: إن ذهابه كان مؤكداً لولا...)
- كان ليذهب = مثل سابقه
- كان قد ذهب = ماض سابق مؤكد: تعلم أنه كان قد زار هذا البلد (مقابل دلالي: بالفعل/ قد سبق له أن زار...)
- كان قد ذهب = ماض سابق مستحضر: عندما دخلت، كان قد خرج (مقابل دلالي: سبق خروجه دخولي)
- يكون ذهب = ماض افتراضي: (مقابل دلالي: افترض أنه ذهب/ذهابه)
- يكون ذهب = افتراضي مستحضر: إذا فعلت له ذلك، تكون أسديته معروفاً (مقابل دلالي: أضمن امتنانه إذا فعلت له ذلك)
- يكون قد ذهب = ماض افتراضي مستحضر/مؤكد (مقابل دلالي: افترض أنه ذهب الآن/ قد ذهب/ ذهابه الآن)
- سيكون قد ذهب = مستقبل سابق مستحضر: إذا وصلت بعد الظهر، سيكون قد خرج (مقابل دلالي: إذا وصلت بعد الظهر فلن تجده)
- قد يكون ذهب = ماض احتمالي مستحضر (مقابل دلالي: ربما قد ذهب)
- كان سيكون قد ذهب = ماض شرطي (مقابل دلالي: لا شك في ذهابه لو...)

حول مصطلحات التزمين:
بالرغم من أن "حال" و"حاضر" مترادفان، نلاحظ أن "حال" تتميز بنسبية أكبر بكثير من مرادفها، فهي "حال" بغض النظر عن اللحظة الزمنية: حال في الحاضر، وحال في الماضي، وحال في المستقبل؛ ألا تشير عبارة "حالاً" إلى المستقبل تحديداً، وعبارة "في الحال" إلى الماضي والحاضر والمستقبل؟
- الحاضر: سآتيك به في الحال/حالاً (أي في لحظة قريبة من اللحظة الآنية، لكنها في المستقبل على أية حال، بدليل استخدام سين التسويف).
- الماضي: أرسلت إليه فجاء في الحال (لا نقول: جاء حالاً*)
- الحاضر: أريده في الحال(أي الآن)/ كنت أريده في الحال (أي في تلك اللحظة الماضية)

أضف إلى ذلك أن"الحال" مع كونها مرادفة لـ "الحاضر" فهي أيضاً مرادفة لـ "حالة" والحالة تعني الوضع والهيئة، وهاتان غير مرتبطتين بلحظة زمنية بعينها، فتكون "الحال" بذلك "لحظة فضائية" منفكة عن إسار الزمن – في مقابل "حاضر" بوصفه "لحظة زمانية" – وتظل كذلك حتى يحكمها السياق، فتعود ترتبط بلحظة ما من لحظات الزمن.

أما "حاضر"، من جهته، ففيه أيضاً قدرٌ من النسبية، وذلك عندما نقول، مثلاً، كنت حاضراً، سأكون حاضر، أو عندما يكون اسماً بمعنى "موجود أو شاهد"، في نحو قولنا: فليخبر الحاضر الغائب. لكنه في مثل هذه السياقات لا يكون مرادفاً لـ "حال". أما عندما يكون مرادفاً لـ "الحال" و"الآن" في نحو كلامنا المطلق عن "الماضي والحاضر والمستقبل" أو "في الوقت الحاضر" فإنه لا يعود نسبياً، بل يشير إلى لحظة التكلم بصورة مطلقة.

لذلك جاء اختيار "الحاضر" ليدل على اللحظة الزمنية الواقعة بين الماضي والمستقبل، والتي تمثل لحظة التكلم، أو تنتمي إليها لحظة التكلم.
أما الحال، فهي "حاضر نسبي سياقي"، يمكن أن يقع في أيٍ من فترات الزمن المادي الثلاثة.


ولعله سيكون من المفيد أن نشرح بإيجاز مدلولات بعض المفاهيم التي استخدمناها:

الاستمرار: المقصود به حالتان:
1. تكرار الحدث كما لو كان عادةً اعتيدت "كانوا قليلاً من الليل لا يهجعون" أو صفة ثابتة "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"؛
2. جريان الحدث، أو استمرار تحصيله (كنت أرتب غرفتي) بالمقارنة مع لحظة في السياق (في ذلك الوقت، كنت أرتب غرفتي) أو بالمقارنة مع حدث آخر (كنت أرتب غرفتي عندما سمعت طارقاً يطرق بابي)

الحال: صورة الحدث متجسدة في فاعله في لحظة لا يحددها إلا السياق سواء كان نصياً أو ضمنياً:
الحاضر: ها هو قائم يصلي
المستقبل: سترونه قائماً يصلي
الماضي: كان قائماً يصلي /وجدناه قائماً يصلي

الانقطاع: كون الحدث لا علاقة له بالحاضر: غرقَ فرعون، حكم الهكسوس مصر...

الاستحضار: يشير بالضرورة إلى الحدث الماضي، وتلعب "قد" دوراً أساسياً في تركيبه. والمقصود بالاستحضار واحد مما يلي:
1. في سياق الحاضر: ربط نتيجة الحدث الماضي بلحظة التكلم من خلال تجسد تلك النتيجة، كما في "قد خرج"، أي أنه ليس موجوداً الآن، وكما في "قد شبعت"، أي أن النتيجة أنني في حالة شبع وامتلاء الآن ولا أريد مزيداً من الطعام؛
2. في سياق الماضي: ربط النتيجة بلحظة أخرى محورية في السياق الماضي، غير لحظة التكلم، كما في "عندما وصلت كان قد خرج"، بمعنى أن نتيجة حدث الخروج، وهي عدم عثوري عليه، كانت ماثلة لحظة وصولي، وكما في "جاءونا بأكل إضافي رغم أننا كنا قد شبعنا"، فنتيجة حدث الشبع أننا لم نعد، حينها، جائعين لنأكل ما جاءوا به؛
3. في سياق الشرط الحقيقي: ربط النتيجة بلحظة التكلم، كما في "كان سيكون قد افتضح أمره". النتيجة: كونه ليس مفضوحاً الآن.
4. في سياق الشرط/الفرض الأسلوبي: ربط النتيجة بلحظة ما في السياق:
- في وجود "يكون" ("كان" مصرّفة في التزمين الحاضر): كلما كنت أسد ثغرة، يكونون قد فتحوا ثغرة أخرى. النتيجة: وجود ثغرة أخرى مفتوحة حين أفرغ من سد ثغرة سابقة.
- أو في وجود أي فعل آخر مناسب غير "يكون" مصرف في الحاضر: كلما سددت ثغرة، أجدهم قد فتحوا ثغرة أخرى".
- أو في وجود أي فعل آخر مناسب غير "يكون" مصرف في الماضي: كلما سددت ثغرة، وجدتهم قد فتحوا ثغرة أخرى". والنتيجة نفسها.


الفرق بين الشرط والفرض:
الشرط هو أن يكون تحقيق (أ) مرهوناً بحدوث (ب)، فلا يحصل الثاني إلا بضمان حصول الأول، فالارتهان مطلق، أي أن:
حصول (أ) = حصول (ب)
وإذا كان (أ) = صفر
فإن (ب) = صفر
إذن (أ) هي شرط (ب)
ومثال الشرط:
لن أذهب (ب) حتى تذهب/ إلا إذا كنت ستذهب/ إلا إذا ذهبتَ أنت (أ)

أما الفرض فهو أنه في حالة حصول (أ) فإن حصول (ب) يكون متوقعاً أو ضرورياً أو لا مناص منه أو مرغوباً فيه؛ لكن (ب) في الفرض ليس رهينة بيد (أ)، فربما يتحقق (ب) حتى وإن لم يتحقق (أ)؛ ففي المثال التالي:
إذا ذهبتَ (أ) سأذهبُ (ب)
نفهم أن حدوث (أ) سيؤدي، لا محالة، إلى تحقيق (ب)، لكن عدم حدوث (أ) قد لا يمنع، بالضرورة، تحقيق (ب): ربما سأذهب حتى وإن لم تذهب أنت:
(أ) ← (ب)
(أ) = صفر
(ب) = ؟
إذن فإن (ب) ¹ (أ)
في حالة الفرض، تكون المقدمة سببٌ تتبعه نتيجة؛ لكن النتيجة غير مقيدة بالمقدمة، إذ يمكن أن تنتج عن سبب آخر؛ أما في الشرط فإن النتيجة (جواب الشرط) مرهونٌ تحقيقها بما اشترط لها.
ومع ملاحظة أن استخدام صيغ النفي تجعل من المقام شرطاً (لا تذهب حتى أحضر) إلا أن التفريق بين مقامي الشرط والفرض قد لا يتأتي نحوياً بصورة مطردة، بل يكون في أغلب أحواله مفهوماً من خلال السياق. ونأمل أن يتضح الفرق بينهما من خلال الأمثلة التالية:
"إذا قالت حزامٍ فصدقوها" > فرض (أن تصديقها ليس مشروطاً بقولها، بل القصد تصديقها في حال قولها)
"أسلم تسلم "> شرط (لا سبيل إلى السلامة إلا بالإسلام)
"صوموا تصحّوا" فرض (الصوم ليس شرطاً لازماً للصحة، لكن افتراض القيام به يؤدي إلى نتيجة مؤملة/محتملة/ممكنة هي الصحة.
"أرحم ترحم" و "أكرم تكرم" فرض
"قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق" > فرض (الإمساك عن الإنفاق ليس مشروطاً بامتلاك الخزائن، لكن لو صدق الأخير حصل الأول)
"إذا حضر الماء بطل التيمم" > فرض (حضور الماء ليس شرطاً في بطلان التيمم، فقد يبطل التيمم لأسباب غير حضور الماء، لكن افتراض حضور الماء سيكون سبباً، غير حصري، لبطلان التيمم)
إذا ضربك فاضربه > فرض (بالرغم من أن ضربه لك سيؤدي إلى ضربك له، فلا شيء قد يمنعك من ضربه لسبب آخر. الدليل على ذلك إن حديث "إذا مرض فعده" لا يفهم منه أن المرض شرط الزيارة. إما إذا أردنا مقابلاً شرطياً فهو: لا تضربه إلا إذا ضربك)
يعادي من يعاديه > شرط أو فرض (ربما تكون المعاداة شرطه الوحيد للمعاداة، أو ربما هو يعادي لأسباب أخرى، كأن يسرق منه أحدهم شيئاً مثلاً، لكن بافتراض أن أحداً ما سيعاديه فإنه لا يتورع عن معاداته)
"اتركوا الأحباش ما تركوكم" > شرط (الترك رهين بالترك)
سأذهب إنْ ذهبتَ > شرط أو فرض (ربما كان الذهاب الثاني شرطاً وربما كان مقدمة)
ذهبتُ إن ذهبتَ > شرط أو فرض (الشرط: ربما أن ذهابك شرط ذهابي؛ والفرض: ربما أنه نتيجة له، بمعنى: إذا أنت هلكت فسأهلك من بعدك، لكن ربما أهلك وإن لم تهلك)
سأذهب إنْ تذهب > شرط (ذهابي مرهون بذهابك: أي إن لم تذهب فسأبقى ولن أذهب)
أينما تذهب اذهب > فرض (ذهابي ليس رهن ذهابك، بل سيكون نتيجة له)
إن ذهبتَ ذهبتُ > فرض (مثل سابقه)
إن أعطيتم أعطينا > فرض ( قد نعطي حتى وإن لم تعطوا، لكن ما إن تعطوا حتى نعطي، إذن: عطاؤكم ليس شرطاً بل سبب ومقدمة)
لولا المشقة ساد الناس كلهم > شرط (لا بد أن تنعدم المشقة كليّاً حتى يتسنى لكل الناس السيادة)
"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" > شرط "مؤكد"
إذا قال فعل > فرض (قد يفعل حتى وإن لم يقل، إذ ليس شرطاً أن يقول ليفعل)
"كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله" فرض (النتيجة تترتب عن الافتراض)

من كدّ وجد > فرض (لا نفهم منه: لا يجد إلا من يكد، بل نعي جيداً أنه ربما يجد من لا يكد)
"من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" > فرض (ليس القصد الأساسي من الإخبار أن الحصول على عشرة حسنات مشروط باكتساب حسنة واحدة، بل القصد أنه كلما جاء أحدهم بواحدة حصل على عشرة؛ هذا، مع أننا قد نفهم ضمناً أن الحصول على عشرة لا يتسنى إلا لمن أتى بواحدة).





































القسم الرابع
الأفعال الحرفية
"إن الشيئين إذا خلطا حدث لهما حكم ومعنى لم يكن لهما قبل أن يمتزجا[54]"

الفصل الأول
علاقة الفعل بحرف الجر

بعد أن رأينا شبكة التفاعلات التي يخلقها الفعل في سياقه مع أقسام الكلام ليؤدي دوره ضمن الرسالة التعبيرية، فلا غرو أن نشأت بينه وبين حروف الجر علاقة تدخل ضمن نفس الإطار. ولولا ما كان لحروف الجر من دور يتعدى دورها الإعرابي، يتمثل في تغيير الدلالات، وضبط التعدية وتخصيصها، من ناحية، و إكثار الدالات الفعلية من ناحية أخرى، لكان شأنها شان الظروف في الالتصاق بمعانٍ قاموسية محددة.
سنأخذ فيما يلي اسماً لكي نرى كيف يصبح الاسم "كرة تتعاورها حروف الجر وتنطح معانيه في جميع الجهات". لنتأمل هذه الأمثلة، في غير مجال الأفعال، كي نرى كيف أن تسمية حروف الجر بهذا الاسم الذي يشير فقط إلى دورها الإعرابي (الجر!) تعبر عن قدر كبير من عدم الانتباه إلى أدوارها المتعددة في مجال الدلالة. وقد اخترنا الاسم "حاجة" في سياقات مختلفة (اقتبسناها بتصرف من عدد من كتب التراث):
ما لي حاجة عنده = لا أسأل هذا الشخص شيئاً
لا حاجة لي به = لا أحتاج إلى هذا الشئ
لا حاجة لي فيه = أنا زاهد فيه
لا حاجة لي إلى شيء = لا ينقصني شيء
ما بي حاجة = لا أعاني الفقر
ما بي حاجة إليه = لا أحتاج إلي هذا الشيء
ما لي حاجة إليه = لا أحتاج إلى هذا الشخص/الأمر في شيء
لا حاجة لي من ذلك = لا انتفع من وراء ذلك بشيء / لا غرض لي من وراء ذلك
"أرادت إلينا حاجة"[55] = طلبتْ نكاحنا
لا حاجة له = لا داعي له / لا يفيد في شيء
لا حاجة إليه = نفسه
إليك بحاجتي! = سأقول لك ما حاجتي
إليك حاجتي = ما احتاج إلا إليك
عليك بحاجتي! = اقضِ حاجتي!
ما من حاجة = لا توجد حاجة مطلقاً
أتيتُ في حاجة = توضيح الغرض
أتيتُ من حاجةٍ = توضح السبب
أتيت عن حاجة = توضح السبب
ما لحاجةٍ أتيت = توضح الهدف
حاجة في النفس = هدف أو عزم على أمر ما
في النفس منه حاجة = تساؤل تريد جواباً له
حاجة في الصدر = أمل وبغية
"لا يجدون في صدورهم حاجة" = غل وحسد
وأنا على حاجة إليه = في حال كوني محتاجاً إليه
حاجةً منه إلى = بسبب احتياجه إلى

وما لنا إلا أن نأسف لكون أكبر قواميس العربية، وهو لسان العرب لابن منظور، لا يكاد يفرد حيزاً يذكر ضمن مواده لحروف الجر، تلك الكلمات "القزمة" التي لا تتكون إلا من الحرف والحرفين!

أما في مجال الفعل، فإن اتحاد الفعل مع حرف الجر يؤدي غرضين اثنين:

أولاً: التعدية، وحكم العلاقة الإسنادية وتخصيصها:
إذا أخذنا الفعل "مرَّ" نجد أنه يدل، أول ما يدل، على مرورٍ "بدائي" في قولنا:
- مر رجلٌ ← لا حاجة إلى حرف الجرف في تحقيق الإسناد بين الفعل والفاعل
وحين تتعقد الجملة أكثر قليلاً فتحتاج إلى مفعول به، نجد أنه من غير الممكن أن نقول:
- مرّ رجلٌ طفلاً*؛ إذْ لكي يعود الفعل الذي كان لازماً فيتعدى (تعدياً غير مباشر) فإنه يحتاج إلى حرف جر:
- مرّ رجلٌ بطفل ← حرف الجر، "الباء"، يلعب الدور الأساسي في "توصيل" التعدية من الفعل إلى المفعول به (غير المباشر). بيد أنه ما كان للفعل "مر" أن يقف عند حد طالما بقيت لدى الناطقين حاجة يريدون التعبير عنها؛ فها هو يأخذ حرفاً آخر لكي يعبر هذه المرة عن "مرور" يختلف عن مرور الرجل وحده، وعن مرور الرجل بالطفل:
- مرّت سنوات عديدة على هذه القضية ← عندما تغير المرور من مرورٍ "فضائي" كما في "مر الرجل/ مر الرجل بالطفل" إلى مرور "زمني" لم تعد الباء تصلح لهذا السياق الجديد فاستعيض عنها بـ "على".
- مرَّ علي هذه القضية مرورَ الكرام ← استطاع حرف الجر، "على"، أن يغير المرور الحقيقي إلى مرور مجازي.

إذن فإن لحرف الجر القدرة على التحكم في الفعل والاسم فيحدد نوع العلاقة التي تربط فيما بينهما:
- حكم على المتهم ← محكوم (عليه) وقع الحكم في غير صالحه (مثله: ضيَّق عليه؛ مال عليه)
- حكم بالقانون العرفي← محكوم (به) يشير إلى الوسيلة المستخدمة لأداء الفعل (مثله: وصل بالسيارة)
- حكم للمدعي ← محكوم (له) وقع الحكم في صالحه (مثله: اشترى له؛ وضَّح له)
- حكم بالسجن← محكوم (به) يشير إلى نوع الحكم الواقع على المحكوم عليه (مثله: اتهمه بالسرقة )

حكم بالقانون العرفي لـلمدعي بالتعويض وعلى المدعى عليه بالتغريب
ويفعل حرف الجر الشيء نفسه بالفعل "استغنى":
استغنى (بالحرف صفر) = صار غير راغب
استغنى عن الشيء = لم يعد بحاجة إليه
استغنى بالشيء = اكتفي به

ثانياً: إكثار المعاني
لا يزال الفعل يؤدي معناه الأصلي، البدائي، الذي وضع له، حتى يتصرف الناطقون باللغة في دلالته بإضفاء دالات مجازية جديدة. فالفعل "أكل" يعني "اقتات" ويتضمن إفعال الفعل (طريقة حدوثه) عدداً من الإيحاءات هي التي تساعد في اشتقاق دالات جديدة. فمن هذه الإيحاءات المتضمنة في إفعال "أكل" (انظر لسان العرب، مادة أ ك ل):
1- النفع، ومنه جاء معنى الأُكُل، أي الثمر، في "آتت أكلها"، والمأكل بمعنى الاكتساب؛
2- الانتفاع الشخصي كفعل أناني، ومنه جاء المعنى المجازي الذي نجده في "أكل أموال الناس بالباطل" واستئكال أموال الضعفاء، ومنه أيضاً قولهم: آكَلَنِـي ما لـم آكُل و أَكَّلْنِـيه، كلاهما: ادعاه علـيَّ ؛
3- القضم والهرس، ومنه جاء معنى الأكولة والأكلان، وأكل الطفيليات للإنسان والحيوان، والأَكَل أو التأكُّل والتآكل الذي يصيب الأسنان وغيرها والذي ينجم عن "القضم" البطيء؛
4- الأذى والألم الناجم عن القضم والهرس، ومنه جاء معنى الأُكلة والإكلة (بالضم والكسر) وهي الغيبة كما في قوله تعالى: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟"
5- والبلع والإهلاك، ومنه جاء قولهم: أَكَل فلان عُمْرَه إِذا أَفناه، والنار تأْكل الـحطب.

كل هذا التوالد في المعاني لا يمكن أن تكون دالته واحدة في شكلها متعددة في مدلولاتها، وإلا لم يأمن الناس اللبس والاستغلاق. لذلك دخلت الزوائد لكي تضفي على الدوال الفعلية الصرفية أشكالاً مختلفة حسب اختلاف مدلولاتها: أكل، آكل، تآكل، أكَّل...الخ. والخيارات المتاحة لإحداث مباينات بين أشكال الدوال الفعلية حين تختلف مدلولاته:
1. استخدام عبارة (جملة تامة التركيب أو غير تامته) يدخل فيها الفعل لتدل على معنى مفارق لمعنى ذلك الفعل مفرداً:
ضرب له بسهمٍ ¹ ضرب؛ ضرب الرقم القياسي في[56] ¹ ضرب
2. استتباع الفعل حرفاً من حروف الجر[57]، وهذا ما نحن بصدده.


تعلق الفعل بالحرف:
عندما يتعلق حرف الجر بأحد الأفعال، تندرج العلاقة بينهما في واحدة من حالات ثلاث:
1. علاقة سياقية: أن يكون لكل من الفعل والحرف مدلوله المنفصل بحكم وضعه كقسم من أقسام الكلام، أي أن الفعل يدل على الحدث فيما يؤدي الحرف دور الرابط في التعدية لتوضيح نوع العلاقة بين الفعل والاسم الذي يليه، وقد سبق أن أسميناه تسمية دلالية هي المسايق، أي المجاور في السياق، بغض النظر عن كونه مجروراً أو مرفوعاً أو منصوباً، ومن أمثلة ذلك:
1. كتب إلى عبد الله
2. كتب على اللوح
3. كتب عن عبد الرحيم
4. كتب بالقلم
5. كتب مع عبد اللطيف

فالفعل "كتب" في الأمثلة الأربعة يدل على ما يفهم من المصدر [ك، ت، ب]، فيما يدل الحرف على طبيعة العلاقة التي تجمع ما بين حدث الكتابة والاسم الالمسايق الذي يلي الحرف: فالحرف "إلى" في المثال 1 يشير إلى أن "عبد الله" هو متلقي الكتابة أو وجهتها، والحرف "على" في المثال 2 يدل على أن العلاقة بين اللوح وفعل الكتابة هي علاقة الحدث بـمكان الحدث؛ والحرف "عن" في المثال 3 يدل علاقة حدث بموضوع؛ وحرف الباء في المثال 4 يدل على الوسيلة أو الأداة المستخدمة؛ وأخيراً، يدل الحرف "مع" في المثال 5 على علاقة مشاركة في الحدث. وفي الأمثلة السابقة كان اختيار الحرف المناسب يحكمه نوع العلاقة التي نريد إنشاءها ما بين الحدث والمسايق. والأمر هنا من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أن نقف عنده طويلاً. لكن ربما يكون من المناسب الإشارة إلى أن سياقات الاستعمال المتواترة أكسبت الحروف قدراً من المعاني المجملة، كما رأينا ذلك في القسم الثاني. وما أوردناه في حينه، ما هو إلا غيض من فيض لا مجال لاستقصائه هنا.
فالباء، كما أسلفنا، تدل على الإلصاق، لذلك يقولون:
أقام به، حل به، نزل به، حَلِسَ به، عَرِسَ به، عَمِدَ به، ولَزِبَ به إِذا لزمَه
وذكروا مثل هذا في بقية حروف الجر.
استقرت هذه المعاني المجملة للحروف، رغم ما يشوبها أحياناً من عدم الاطراد، بفعل التواتر الدلالي، الذي من شأنه أن يعيننا في التعامل مع ما يستجد في اللغة من أفعال. على سبيل المثال، عندما دخلت خدمة التلغراف وعرُبت بكلمة "برق"، استخدمنا الفعل "أبرق" وأتبعناه بالحرف "إلى"- الذي يشير إلى ابتداء الغاية على قول النحاة الأوائل - وقلنا: "أبرق إليه" استناداً إلى التواتر الدلالي لهذا الحرف، ولم نستخدم الحرف "على" أو "عن" مثلاً، لأن الإبراق ضرب من الحركة والنقل والتواصل شبيه بالكلام والكتابة مما يناسبه حرف "إلى". ولعلنا سنقول "أَيْمَلَ إليه*" لو أردنا تعريب فعل التواصل بالبريد الإلكتروني "الإيميل".

هذا النوع من العلاقة بين الفعل والحرف سميناه "علاقة سياقية" نظراً لكون التركيب النحوي يسمح باستخدام حروف متعددة، وتتغير العلاقة الدلالية بين الفعل والاسم بتغير الحرف الذي نختاره.

أمثلة للعلاقة السياقية بين الحرف والفعل:
- تاب إلى، تاب عن
- جاء من، جاء إلى
- حكم على، حكم بـ، حكم لـ،
- رجع إلى، رجع من
- دعا له، دعا عليه

وأفعال هذه الفئة يمكن أن تستعمل من الحروف حسب الاقتضاء. فنحن نقول "فعلَ الشيء" إذا عمله وأنجزه أو أتاه أو اقترفه وارتكبه، ونقول "فعل له" ونقصد من أجله، ونقول "فعل بالشيء" إذا استخدمه وتوسل به، و"فعل منه" إذا صنع منه شيئاً آخر، وحرف الجر في كل هذه الأحوال لا يتعلق بالفعل دلالياً ولا يغير من معناه الأساسي.

2. علاقة توقيفية
في بعض الحالات المحددة، يحتاج الفعل، لكي يتعدى إلى مسايقه، إلى أن يتلوه حرف بعينه. وتظل الدلالة هي دلالة الفعل وحده، ولا يعدو الحرف المصاحب للفعل أن يكون "دعامة نحوية" ضرورية لاستكمال "الصحة اللغوية". ينطبق هذا، على سبيل المثال، على الفعل "ندم". كان بإمكان العرب أن تقول "ندم ذنبه"، لكنها لم تقل ذلك، بل قالت "ندم على ذنبه"، فلا سبيل إلى حذف الحرف ولا سبيل إلى استبداله[58] بحرف آخر. إذن فالعلاقة هنا ثابتة وضرورية كما في:

ثابر على ، رحب بـ ، نجح في ، فشل في ، ناب عن ، لجأ إلى ، صرح بـ ، ظفر بـ ، نص على، أشرف على، جاهر بـ ، كفر بـ ، صام عن، حرص على،

وكما نلاحظ، يمكننا الاستغناء عن المسايق فنقول (نجح الأولاد) أو أن نثبت المسايق فنقول (نجح الأولاد في الامتحان) دون أن يتغير معنى الفعل. والحرف هنا ثابت لا بديل له، ولو استبدلنا به آخر، سوف لن يقتصر الأمر على مجرد تغيير المعنى، مثلما هو الحال في الفئة الأولى (تاب إلى الله/ تاب عن الذنب)، بل سيصبح التركيب خطأ لغوياً: ثابر إلى المذاكرة*/ نجح عن الامتحان*، ناب على المدير*...الخ.

وتدخل في هذه الفئة أفعال تعمل في مسايقين، الأول هو المفعول به (المباشر)، والثاني المسايق غير مباشر الذي يسبقه حرف بعينه:
عاب الكذب على ابنه، نهى النفس عن الهوى، اعتمد على أخيه في المحل
(إذا قلنا "اعتمد أخاه"، تغير المعنى)؛


بقي أن نشير إلى أن بعضاً من هذه الأفعال تتفرد بأنها ترد، خاصة في اللغة الكلاسيكية، مقترنة بالحرف وبدونه، فيقولون: دري بالأمر ودراه، وعلم به وعلمه.

ملاحظة:
ربما لا ينبغي القول بأن الأمر سواء بسواء، إذ قد يكون ثمة بصيص فرق بين الحالتين: فـلعل علم الشيء تدل على إحاطة به أكثر، بينما العلم بالشيء ربما أفاد الإلمام به كما يلم المرء بالخبر يبلغ مسامعه، ومصداق ذلك قوله تعالي على لسان المسيح "إن كنت قد قلته فقد علمته"، أي أحطت به كل الإحاطة، وجاء في اللسان:
خَبُرْتُ بالأَمر أَي علـمته . و خَبَرْتُ الأَمرَ أَخْبُرُهُ إِذا عرفته علـى حقـيقته. لسان العرب ج 4 ص 226
.

أمثلة للعلاقة التوقيفية:

على
اعتمد على
ندم على
ثابر على
عاب على
أشفق على
علق على
أشرف على
نص على

بـ
صرح بـ
ظفر بـ
جاهر بـ
كفر بـ
علق بـ
سعد بـ
لحق بـ
باشر بـ
رحب بـ

في
نجح في
فشل في
حار في

من
تعجب من
سخر من
سئم من
منع من
سئم من

عن
دافع عن
نهي عن
ناب عن
أجاب عن
إلى
لجأ إلى



دون، بين
حال دون/ بين




3. العلاقة الدلالية:
الحالة الثالثة من حالات العلاقة بين الفعل والحرف هي تلك التي يكون فيها وجود الحرف مكملاً لمعنىً جديدٍ، غير ذلك الذي يؤديه الفعل وحده، بحيث يندمج الاثنان ليكونا دالاً ذا طرفين يعبر عن مدلول مفرد. فقولنا: "قام الرجل" يدل على المعهود من معنى القيام، أما قولنا: "قام الرجل بالمهمة"، فنلاحظ فيه أن القيام، بسبب ارتباطه بحرف الجر "ب"، تحول من المعنى الحقيقي إلى معنىً مجازي، هو أداء أمر ما أو الاضطلاع به، وهذا التحول من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي ما كان ليتم لولا وجود الحرف. إذن فإن الحرف لم يكتف هنا بدوره النحوي المتمثل في جر الاسم الواقع بعده وتسهيل التعدية فحسب، بل تجاوز ذلك ليؤثر في مجال دلالة الفعل فيصرفه عن معناه الحقيقي إلى معنى آخر. فالقيام بالمهمة ينضح بمعنى مجازي في فعل القيام (بل بالأحرى: القيام بــ) نتج عن دخول حرف الجر، الباء، الذي غيَّر محتوى المدلول وشكل الدال في وقت معاً. وأغلب الظن أن اختيار حرف الباء لهذه المهمة دون غيره من الحروف لم يجيء بالضرورة بمقتضى التواتر الدلالي للحروف، بل لعله تم اعتباطاً، فلا شيء كان يمنع من استخدام حرف آخر، فيقال مثلاً "قام على المهمة أو قام للمهمة".
ومثل ذلك:
أ. سهر الطالب مذاكراً
ب. سهر الممرض على المريض
في المثال "أ" نجد السهر بمعناه الحقيقي وهو الصحو طوال الليل؛ أما السهر في المثال "ب" فإنما يعني التفرغ لخدمة المريض، وإن كان الإيحاء الأول، المستمد من المعنى الحقيقي للفعل، هو أن يكون التفرغ ليلاً، إلا أن ذلك ليس شرطاً، كما يتضح ذلك من مثال آخر: "سهرت الإدارة على راحة المستهلكين"، أي اجتهدت واهتمت واعتنت.

كما رأينا فيما سبق أن الفعل في "رجع من" و"رجع إلى" يشير في الحالتين إلى الرجوع، ويلعب حرفا الجر وظيفة تتمثل ليس في صرف الفعل عن معناه الأصلي بل في تحديد نقطة بداية الرجوع في "رجع من" ونقطة نهايته "رجع إلى". أما "رجع عن" فإنها أيضاً - شأنها شأن "رجع من" - تشير إلى نقطة البداية، لكن الفرق هو أن "الرجوع" هنا لم يعد هو العود المادي، بل صار بمعنى العدول والكف عن الشيء. وما قلناه في "رجع عن" ينطبق أيضاً على "رجع في". إذن فإن "رجع عن/ رجع في" تختلفان عن "رجع من/ رجع إلى":
1. اختلافاً تركيبياً: أصبح حرف الجر جزءاً لا يتجزأ من الدال الفعلي، الذي صار (ف + ح) بدلاً من (ف)، باعتبار ف = الفعل، و ح = حرف الجر:
رجع من المدينة = ف + ح + اسم مسايق
رجـع عن رأيه = (ف+ح) + اسم مسايق
2. اختلافاً دلالياً: تغير مدلول الفعل من الرجوع المادي إلى معنى العدول في الرأي وتغيير المواقف، وهذا المعنى الجديد لا يتأتى إلا بفضل اقتران الفعل بحرف الجر المعين "عن/في"، الذي إنْ حذفناه لا يعود الفعل يدل بدونه على ما دل عليه في وجوده.

فالعدول عن الرأي وتغيير الموقف هو "نوع مجازي" من الرجوع يتحقق، فحسب، لدى اقتران الفعل "رجع" بحرفي الجر "عن" و"في". ولترسيخ هذ التباين في المدلول بين "رجع في" و"رجع (من)"، ها هو الاستخدام السائد قد خصص مصدراً لـ "رجع في" هو "رجعة" ليكون مبايناً لمصدر "رجع (من)" الذي هو: رجوع. وهكذا قالوا في الطلاق الذي يمكن الرجوع فيه أو عنه "طلاق رجعي"ً، أي "طلاق مرجوع فيه*"، كما نقول "كلام مفروغ منه"؛ ومن قال "طلاقاً رجوعياً*" فقط أخطأ خطأ دلالياً لكون "الرجوع"، إنْ لم يكن "رجوعاً عن" أو "رجوعاً في" فإنه يحيل بالضرورة إلى الفعل الأساس "رجع"، بمعناه الأصلي، عاد، والذي يرتبط بداهةً بحرفي الجر "من" و"إلى".

هذا، وفي سياق آخر، تتغير دلالة الفعل "رجع" مقترناً بحرف الجر "في" تغيراً مختلفاً، جاء في لسان العرب:
"قال ابن الفرج: سمعت بعض بني تميم يقول:"قد رجَع كلامي فـي الرجل ونَـجَع فـيه" بمعنى واحد . قال: و رَجَع فـي الدابّة العَلَفُ ونَـجَع إِذا تَبَـيّن أَثَرُه"[59].
والمعنى هنا أيضاً مجازي: إن الكلام الذي كنت قلته لهذا الرجل – من باب النصيحة أو الزجر- ها هو يرجع ماثلاً متجسداً، ليس بألفاظه بالطبع، بل بثماره التي آتت أكلها.

بيد أنه، في أحيان أخرى، لا نلمح وجوداً للمجاز، وحينها قد لا يعود اختيار حرف الجر يتم اعتباطاً. ومثال ذلك الإكثار الذي حدث لدلالات الفعل "رغب" بفضل مباينة حروف الجر المصاحبة له:
رغب في = أراد
رغب عن = كره وزهد
رغب إلى = مال
رغب بـ ... عن = كره أمراً لشخص

ففي الحالات الثلاث، نجد معنى "الرغبة" يتقلب حتى ينقلب إلى ضده حين استعين بالتواتر الدلالي لحروف الجر من أجل مباينة - بل ومناقضة- معاني الرغبة. فحرف الجر "في" يدل على التمكن في المكان، إذن فإن "رغب في" تدل على وجود الرغبة؛ أما "عن"، فهي حرف تجاوز وبعد، لذلك دل قولهم "رغب عن" على بعد الرغبة وعدم وجودها، فحل محلها نقيضها وهو كره الشيء أو الزهد فيه؛ وأما "إلى" فتدل على انتهاء الغاية، أي أن الرغبة تسير في اتجاه الشيء أو الشخص إلى أن تصله، ولذلك جاء معنى "رغب إلى" مفيداً للميل إلى المرغوب فيه والسعي إليه "أنا إلى ربنا راغبون"[60]. أما "رغب بفلان عن أمر من الأمور"، فمعناه: كره له ذلك الأمر؛ فالباء تفيد الالتصاق بالشخص، وبالتالي التحيز له، و"عن" تفيد التجاوز والبعد عن ذلك الأمر المكروه. هذا، وغني عن القول أن مغايرة مدلولات الفعل عن طريق الاستفادة من تفاوتات مدلولات حروف الجر هي أبعد ما يكون البعد من أن تشكل قاعدة مطردة يمكن التعويل عليها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن أن ننشئ شجرة دلالية من "أحب" أو "أراد" على غرار ما رأينا في "رغب":
أحب عن* ( لتكون بمعنى رغب عن)
أحب إلى* ( لتكون بمعنى رغب إلى).

كما نجد أن الشجرة الدلالية للفعل "مال" تقف مغايرة، في سلوكها الدلالي، لشجرة "رغب" :
مال في*
مال عن = حاد
مال على = ظلم
مال إلى
مال بـ ...عن*

مع التذكير، في الوقت نفسه، بأن معنى "الميل" في "مالت الشمس، مال سنام البعير، مال الحائط، لا تميلوا كل الميل" هو معنى جذري في الفعل مفرداً، في مقابل المعنى السياقي في "مال عن، مال على، مال إلى". بناءً على ذلك، فإن مداخل[61] معاني كل من "مال" و"رغب" هي على النحو التالي:
مال = 5، هي:
1. مال (المعني الحقيقي)
2. مال (المعاني المجازية)
3. مال إلى
4. مال على
5. مال عن

رغب = 5، هي:
1. رغب
2. رغب في
3. رغب عن
4. رغب إلى
5. رغب بـ ...عن

نخلص من ذلك إلى أن المجاز وإن كان بارز الوجود في الأفعال الحرفية، فهو غير مهيمن عليها تماماً، بل أن المعاني المكتسبة للحروف تلعب أحياناً دوراً مهماً في تحديد المدلول الجديد. وعندما تفعل الحروف العربية ذلك، نجدها تقترب من ما تفعله مثيلاتها في اللغة الإنجليزية في بعض تكوينات أفعال العبارة في هذه اللغة:
Come in
Come out
Switch on
Switch off
.
ونرى أيضاً، في أمثلة أخرى، جذوة المجاز تخفت خفوتاً كبيراً، وإن لم تختف تماماً، في ترسيم طبيعة العلاقة بين الفعل والحرف:
أ. يعملون تماثيل من العاج = يصنعون
ب. يُعْمَلُ بهذا القانون من تاريخ التوقيع عليه عملاً بنصوص الدستور = يُطبٌَّق/ ينفذ
ج. يعمل الحرف في الاسم فيجره وفي الفعل فيغير من معناه = يؤثر نحوياً
د. سنعمل على رأب الصدع بين الفرقاء = سنبذل جهدنا من أجل
ها نحن إذن إزاء:
عمل بـ ، بمعنى أنفذ وطبق؛
و"عمل في" بمعنى أثَّر أثراً نحوياً؛
و"عمل على" بمعنى سعى واجتهد.

وفي كل هذه الأمثلة نلمح بوضوح معاني حروف الجر: الوسيلة والأداة في "عمل بـ"، والتمكن من المكان في "عمل في"، والمقايسة بين "على"، في "عمل على"، و"على"، في "ثابر على".

ومن نحو ذلك أيضاً:
"قام بـ" (أي أدى مهمة)، و"قام على" (أي أشرف على عمل وتولى إدراته)؛ و"قام على" (أي الشيء يكون أساسه كذا)؛ و"قال بـ " (أي اعتنق فكرة ودعا إليها) و"قال في" (أي عبَّر، بعد الدرس، عن رأيه في المسألة)؛ و"قال عن" (أي وصف الشخص أو الشيء أو أوضح رأيه فيه). ونلاحظ أيضاً أن الشاعر إذا مدح شخصاً أو هجاه، لا يقال "قال عنه" بل "قال فيه"؛ إذن فإن "قال في" فعل حرفي، إذ أن معنى القول تغير فما عاد مطلقاً بل تخصص ليعني قول الشعر فحسب. ويؤكد ذلك أنك تقول "قال المتنبي في شعب بوان" فيدرك العارف بأساليب العربية أن القول المقصود هو الشعر؛ أما إذا قلت "كتب المتنبي في شعب بوان" لم يدر السامع على وجه اليقين ماذا كتب المتنبي: هل كتب قصيدة أم رسالة أم ألف كتاباً، فلا يتضح المراد إلا بأن تضيف: "كتب قصيدة" أو تورد أبيات القصيدة. ويعلم من خبروا تدريس العربية للناطقين بغيرها أن المبتدئ إذا قرأ عبارة مثل "قال المتنبي في شعب بوان" تبادر إلى ذهنه على الفور أن " شعب بوان" هي مكان حدوث فعل القول، وليست موضوعه، إذ أن حرف الجر المناسب الذي تعلمه للحديث عن موضوع ما هو "عن"، وسيعتقد أن الصحيح هو أن يقال "قال عن شعب بوان".

ولنلتقط عبارة "الناطقين بغيرها" التي مرت بنا للتو ففيها فعل حرفي حديث النشأة هو "ينطق بـ". فالعرب كانت تقول "نطق"، كفعل لازم، أي تكلم، عكس خرس، وتدلنا سياقات الفعل "نطق" على أنه يختلف عن "تكلم" في كونه يفيد كلاماً تكتنفه ظلال تتراوح ما بين المعنى المطلق للنطق كخاصية تميز العاقل عن غير العاقل/الجماد "مالكم لا تنطقون؟"، إلى معنى الكلام كلغة بشرية "وما ينطق عن الهوى، النجم، آية 3"، مروراً بمعنى اصطلاحي تقني "نطق القاضي بالحكم"، أذا أصدر حكمه، وانتهاء بمعنى الإفصاح الجميل المعبر وإن لم يكن من خلال اللغة البشرية: "غير أن نطقت حمامة"، و "عُـلِّمنا منطق الطير"؛ ويكون الفعل متعدياً:"نطق" أو"نطق بـ" أي "تفوه بـ" و"لفظ": "نطق بالشهادتين"؛ وأصبح الفعل "نطق/ينطق"، بوصفه مصطلحاً في علم الأصوات، يشير تحديداً إلى طريقة اللفظ وإخراج أصوات الكلمة على النحو الصحيح "كيف تنطق هذه الكلمة"، وكأننا نراه يزيح الفعل "يلفظ" عن هذا المعنى التقني في علم الأصوات، فكأنما أصبح الفعل "يلفظ" يتعلق أكثر فأكثر بالكلمة والجملة و"نطق" يتعلق أكثر بالأصوات المفردة. ثم تطور الأمر الآن بعد أن صار تدريس العربية للأجانب علماً قائماً بذاته، فأصبحنا نستخدم عبارة "ينطق بـ" للتعبير عن تحدث الشخص باللغة بوصفها لغته الأم؛ فـ "الناطقين بغير العربية" هو مصطلح بديل لمصطلح قديم اطرحناه، هو "العجم"؛ فإذا قلنا إن "بعض البلجيكيين ينطقون بالفرنسية" عنينا أنها لغتهم التي ولدوا عليها؛ وهكذا صار ثمة فرق شاسع بين قولنا "يتكلم العربية أو بها"، الذي لا يفيد بالضرورة كون العربية لغة أصلية للمتكلم، وقولنا "ينطق بالعربية" الذي يشير تحديداً إلى تلك الصفة من علاقة المتكلم باللغة. ولا يتأتى هذا المعنى باستخدام الفعل وحده بدون الباء: فإذا قلنا "ينطق العربية" عنينا فقط، ربما، طريقة نطقه لأصواتها وكلماتها.

ونقول "اتفق معه" (الفئة الثانية) ويقابلها "اتفق له" (الفئة الثالثة)، أي تصادف أن، أو حدث له؛ ونقول "نظر إليه" بمعنى "عاينه" (الفئة الثانية) في مقابل "نظر في" أي درس وفحص لكي يخرج برأي أو بقرار (الفئة الثالثة)؛ ونقول "سلم عليه" أي حياه (الفئة الأولى)، و"سلّم بـ" أي أقر بأمر (الثالثة)، ومثلها "سلّم لـ...بـ.." أي اعترف وأقر.

ورأينا في العربية الكلاسيكية كيف انصرف معنى الفعل "سار" حين لحقه حرفا الجر "إلى" و"في" عن المعنى العريض للسير ليضيق فيختص بالسير لطلب الأعداء:
"سار إليهم في ألف رجل"، إي غزاهم على رأس ألف جندي.

ومن الأمثلة الأخرى:
- قطع[62] :
أ. قطع يده / قطع الطريق
ب. قطعها بالسكين الفئة الأولى

ج. لم يقطع بشيء، أي لم يبت / لم يعط رأياً حاسماً الفئة الثالثة
د. قطع عنه المؤونة، أي لم يعد يقدمها إليه

- عـنَّ:
عنَّ = ظهر
عنّ له = خطر له

- سمع:
سمعه = تناهي صوته إليه
سمع عنه = ورد إليه ما يقوله الناس عنه
سمع بـه = نُقِل إليه خبره، علم بوجوده
سمع لـه = أطاع أمره
سمع منه = استمع لما قاله، علم رأي محدثه
سمع فيه = سمع أو علم ما يقوله الناس عنه

- بحث:
أ. بحث عن كتابه = الفئة الثانية
ب. بحث في البيت = الفئة الأولى
ج. بحث في المسألة (بحث المسألة) = الفئة الثالثة

ولعل من الطريف أن نلاحظ أن الفعل إذا كان الأصل فيه أن يتلوه حرف معينٌ، أي عندما يكون من الفئة الثانية، فإن حذف ذلك الحرف هو الذي يغير من معناه مثلما رأينا في (بحث المسألة) وكما هو الحال في "اعتمد على أخيه"، أي اتكل عليه، و"اعتمد القانون"، أي صادق عليه (يقولون أيضاً: صدّق عليه).

ولنأخذ مثالاً آخر غني في تركيباته:
أ. دعاه، أي ناداه/سماه
ب. دعا عليه بالنقمة، أي طلب النقمة عليه
ج. دعا له بـالهداية، أي سأل الله أن يهديه
د. دعا به، أي أمر بإحضاره
ه. دعا إلى، أي دفع إلى "ما دعاك إلى الذهاب إليه؟"؛ وفي المجال الفكري: مارس الدعوة أي سعى للإقناع بفكرة أو مذهب ما: "دعا إلى الله"؛ وفي المجال الاجتماعي: حشد الناس لأمر ما: "دعاهم إلى التصويت لحزبه".
و. دعا بـ، أي دعا إلى عقيدة أو مذهب؛ أو سعى لحمل الناس لإتباعهما (ولعله أقوى من "دعا إلى" الذي قد لا يحمل معنى الشدة)
ز. دعا له، أي، في العربية الكلاسيكية، مارس الدعاية السياسية لصالحه، كما في قولهم "دعا لبني العباس" مثلاً.

وأغنى من ذلك تركيبات "وقف":
أ. وقف التلاميذ / وقفوا له (الفئة الأولى)
ب. وقف في المسألة (أي شك فيها، أو أولاها المزيد من الدراسة)
ج. وقف على سير العمل (أي تفقد العمل وراقبه من موقع المسؤولية العليا، وليس من موقع الإشراف المباشر)
د. وقف منها موقف المتفرج/وقف منها متفرجاً (أي سلك إزاءها ذلك السلوك)
ه. وقف ضد ذلك القانون (أي عارضه)
و. وقف إلى جانبه / وقف معه[63] (أي أيده أو سانده)
ز. وقف عندها بعض النحويين (أي وقفوا فيها)
ر. وقف لها جل وقته (أي خصص)
س. وقف ماله على (أي تنازل عنه لصالح)
ش. وقف له رجالٌ (أي تصدوا له)


نلاحظ أن الوقوف في هذه الأمثلة ربما يحمل معنىً مجازياً يتضمنه جذر الفعل وهو أقرب إلى معنى الوقوف الأصلي، وإنما تلعب حروف الجر دوراً كبيراً في تخصيص تلك المعاني المجازية. ونلاحظ كذلك أن باستخدام "مع" و"ضد" خرجنا من دائرة الحروف إلى دائرة الظروف، مما يدل على أن الأمر لا يتعلق بالحروف فقط بل يتعداها إلى الظروف، بل أن الأمر لا يزال يتسع حتى شمل الاسم في "وقف منها موقف المتفرج"، ليكتمل تضافر أجزاء الكلم التقليدية في النحو العربي في تركيب أفعال العبارة، كما رأينا في المثال "د" حيث انضم المفعول المطلق فاكتمل المعنى المراد. ونلاحظ هنا أن: "وقف منه موقفاً " لا يعادل في دلالياً "وقف منه وقوفاً": إن "الوقوف موقفاً" هو وقوف مجازي، بعكس المعنى الحقيقي في "الوقوف وقوفاً".

ومثل ذلك ما نراه أيضاً في الأمثلة التالية:
أ. أخذ الشيء
ب. أخذ له حقه
ج. أخذ بتلابيبه
د. أخذته العزة بالإثم (عبارة فعلية)
ه. أخذه من قول الآخر (أي، في مجال الشعر، سرقه سرقة أدبية)
و. أخذ بـ (أي اعتمد/ سار على/ تبنى)
ز. أخذ عليه (أي عتب عليه / لامه / استنكر منه)
ر. أخذ عنه (أي تعلم منه، أو تأسى به في خُلق ما)


وأخيراً، نجد من الأفعال ما لا تتغير مادة معناه مقنرناً بالحرف وغير مقترنٍ به؛ لكن ما يدخله في جملة الأفعال الحرفية أن إفعال الفعل (طريقة حدوثه) والعلاقات الإسنادية تتغير:
تأكد فوزُ مرشح الحزب الحاكم
تأكد مراسلُنا من فوز مرشح الحزب
لهذا السبب فإن دال الفعل الأول هو "تأكد" ودال الفعل الثاني هو "تأكد من":

الجملة المصدر (الدلالي) الدال الفعلي
قام بالمهمة القيام بـ قام بـ
وقف في الطريق الوقوف وقف
وقف في المسألة الوقوف في وقف في
رغبها لنفسه الرغبة رغب
رغب عن السفر الرغبة عن رغب عن






























الفصل الثاني
الأفعال الحرفية في العربية والإنجليزية[64]
بحسب عالمة النحو مارتا كولن Martha Kolln، لا يدخل الفعل المقترن بحرف الجر في عداد Phrasal verbs الإنجليزية إذا كان بمقدور مكوناته أن ينم كل واحد منها عن معنى خاص به. فقولهم “go up”، على هذا الأساس، ليس من الأفعال الحرفية في شيء؛ فهي ترى أن كلا من الفعل والحرف يشير إلى معناه الذي وضع له: الفعل يشير إلى فكرة "الانطلاق" والحرف يشير إلى فكرة "إلى أعلى"؛ إذن فإن ثمة دالين، والفكرة التي تصلنا هي حاصل مدلوليهم[65] . وإذا كانت مارتا كولن معنية فحسب بالمحتوي الدلالي لتلك العبارات، وترى أنها لا تشكل كياناً مستقلاً ما لم تتحد أجزاؤها لإنتاج مدلول جديد هو غير مدلول تلك الأجزاء منفردة، فثمة آخرون ينظرون بالأحرى إلى التركيب النحوي[66]، ففي رأي هؤلاء كل فعل اقترن بحرف فهو فعل حرفي.
من ناحية أخرى، يعيب بعض النحاة الإنجليز، ومنهم فولر Fowler، على الأفعال الحرفية حقيقة كونها تعبر عن المعنى الواحد بكلمتين أو أكثر؛ وتراهم يرفعون حجة مفادها أنه ما مِنْ فعل عبارة إلا ويقابله، في الواقع، فعل مفرد يؤدي نفس معناه، وبذلك يطعنون في جدوى التعبير عن المعنى المفرد بأكثر من لفظ، ويقدم فولر بعض الأمثلة على ذلك[67] :
meet up with = meet
lose out = lose
miss out on = miss

تختلف ظاهرة الأفعال الحرفية في اللغة العربية عنها في اللغة الإنجليزية، وتتشابهان، في الجوانب التالية:
1. في الجانب الكمي
نجد في الإنجليزية ما يقارب الألف من الأفعال الحرفية، وبالرغم مما يقوله صامويل جونسون[68] من الإنجليزية ربما كانت تضم العدد الأكبر من الأفعال الحرفية، إلا أننا سنقول بثقة إن الأفعال الحرفية في العربية لا تقل عدداً عن مثيلاتها في الإنجليزية إن لم إن لم تزد. وهذه الكمية من الأفعال الحرفية في اللغتين تفوق مئات الأضعاف ما نجده من حفنة الأفعال الحرفية في لغة من أصل لاتيني هي الفرنسية[69]. بيد أن الفرنسية والعربية ربما تكونان أغنى بكثير من الإنجليزية في أفعال العبارة. وفي هذا الجانب الكمي أيضاً، يشير النحاة الإنجليز إلى ازدياد واضح في أعداد الأفعال الحرفية التي دخلت إلى حيز الاستعمال في القرنين الأخيرين. أما في العربية فلا شك أن ثمة جديداً من هذا الأفعال يدخل حيز الاستعمال، إلا إننا بحاجة إلى تقصي تاريخ استعمال ما لدينا منها، خاصة ما نسمعه في أجهزة الإعلام والمنابر الثقافية.

2. من حيث المستوى اللغوي
تنتمي الأفعال الحرفية في اللغة الإنجليزية إلى المستوى العامي في اللغة، بينما هي في العربية من صميم المستوى المعروف بالفصحى، بل ترقى أحياناً إلى الأبلغ من مستويات الفصحى.

3. من حيث الإيحاء بالمعنى
بالرغم من الصعوبة التي يجدها الدارس الأجنبي في استنطاق المعنى من السياق في كلتا اللغتين، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن تلك المهمة أقل حدةً في العربية منها في الإنجليزية. ففي هذه الأخيرة نجد الكثير من هذه العبارات، مركبة من فعل زائداً حرفاً أو حرفين أحياناً، ولا تقدم مكوناتها أية مساعدة للدارس لكي يستجلي معناها. لننظر إلى هذه العينة من أفعال العبارة التي لا تسعف أجزاؤها في استنطاق معانيها:
Tell upon = أساء إلى
Get along = تخلص من
Give in = يسلّم
Give up = هجر، ترك، أقلع عن
Back out = يخلف وعداً
Iron out = حسم خلافاً
Let out = يؤجَّر
Make out = يفهم
Pick out = يختار
Put out =أطفأ
Run out = نضب
Wipe out = حطم

أما في العربية فقد يجوز لنا الاعتقاد بأن المجاز الكامن، في غالب الأحيان، تحت تلك العبارات ربما ييسّر استشفاف ما تنطوي عليه من المعاني.

4. الأفعال الحرفية في اللغة العربية هي بالضرورة متعدية، بمعنى أوسع للتعدية يشمل التعدي غير المباشر بواسطة أحد حروف الجر، بينما نظيراتها الإنجليزية تجيء لازمة ومتعدية:
To hang around يراوح مكانه =
To die out ينقرض (اللغة مثلاً) =

5. بعض أفعال العبارة في الإنجليزية يمكن أن ترد بدون حروفها وتشير إلى نفس المعني، أي أن الحرف في هذه الحالة قد لا يزيد ولا ينقص من معنى الفعل:
Fold the ironing board up so that it is flat.
Fold the ironing board so that it is flat.

إذن، فربما يجيء الحرف في مثل هذه الحالات تقليداً لـ "مزاج تعبيري" أكثر منه مشيراً إلى محتوى دلالي إضافي؛ لكنه قد يصاحب الحرفُ الفعل مؤكداً له، أو للإشارة إلى تكراره:
Fold up a paper (طوى الورقة عدة طيات)
في مقابل:
Fold a paper (طوى الورقة طية واحدة)

6. أكثر الأفعال الحرفية في الإنجليزية، كما قال فولر، يمكن أن تجد لها مقابلاً في معناها من غير أفعال العبارة. قد يصدق ذلك كثيراً في العربية:
قام بـ = فعل، أدى
سار إلى = غزا
لكن دعونا نتأمل الفروق اللطيفة بين بعض الأفعال الحرفية ومرادفاتها:
- ترتب عن (الفئة الثالثة) = نتج عن (الفئة الثانية)
- ما ترتب عن التعديل = ما نتج عن التعديل


استحقاقات/ أعباء (سلبية بالضرورة) = نتائج (يمكن أن تكون سلبية أو إيجابية)

- وقف في المسألة = شك، درس بتأنٍ، أمعن النظر


معنى اصطلاحي تقني = معنى عام للشك وإمعان النظر
يختص بالشك في المسائل العملية لا يختص بالضرورة بالمسائل العلمية
وإمعان النظر فيها والتعبير عن ذلك

- قام بزيارة = زار


أنسب للتقرير بمعناه التقني = أنسب للسرد

لنتأمل الأمثلة التالية لكي نلاحظ الفرق الذي تحدثه "قام بـ"،:
- يريد الرئيس من الحكومة أن تصلح الاقتصاد
- يريد الرئيس من الحكومة إصلاحَ الاقتصاد
- يريد الرئيس من الحكومة أن تقوم بإصلاح الاقتصاد

في المثالين الأولين نستشف بالكاد العمق التقني لعملية الإصلاح، بينما يوحي المثال الثالث على نحو أكثر وضوحاً بذلك البعد. والفضل في ذلك يعود إلى المضمون التقني في الفعل الحرفي "قام بـ" من جهة، وفي المصدر "إصلاح" ( وهنا تكمن ملاحظة طريفة هي أن الفعل "أصلح" أقل تقنية من مصدره "إصلاح").

إذن، فإن الأفعال الحرفية في العربية، وإن يكن لها مرادفات تحمل نفس معناها، فقد ترسم أحياناً ظلالاً اصطلاحية وأسلوبية لا تؤديها مرادفاتها.

7. يمكن أن تتكون الأفعال الحرفية في الإنجليزية من فعل وأكثر من حرف، ولا نجد لذلك أمثلة كثيرة في العربية:
خرج: ضد دخل
خرج على: تمرد
خرج بـ: استنتج
خرج على بـ : جاء بأمر جديد : خرج علينا بكذا
رغب بـ...عن : كره له شيئاً

أما التراكيب مثل "سلم لـ... بـ..." في جملة من نحو "سلم له بالزعامة" فإن اللام في الحقيقة ليست جزءاً من العبارة الحرفية التي تقتصر على "سلم بــ" وإنما ينحصر دور اللام في بيان وجهة التعدية: "له".


9. نلحظ في العربية أحياناً اتجاها عكسياً، أي التخلص من حرف الجرف لإكساب الفعل بدونه معنى جديداً:
اعتمد عليه = عول على مساعدته
اعتمده = اتخذه/ اتخذه أو قبله بشكل رسمي، قبله، صادق/صدق عليه

إذن مع وجود الأفعال الحرفية وتطورها، تشهد اللغة العربية الحديثة، على نحو مفارق، حركة عكسية تتمثل في جنوح بعض الأفعال إلى التخلص من حروف ظلت ملازمة لها عبر القرون. وتلك ظاهرة لم تثبت، على حد علمنا، في اللغة الإنجليزية.

ففي ميدان الدبلوماسية والإدارة نقول: "اعتمده سفيراً، واعتمد الأوراق، واعتمد الوثائق" ولا نجد شيئاً من ذلك في لسان العرب أو مختار الصحاح، وإنما هو استخدام مستحدث لهذا الفعل، بعد التخلص من حرف الجر "على"، للدلالة على معنى جديد لا عهد للسان والصحاح به:
" عمد : العَمْدُ: ضدّ الخطأ فـي القتل وسائر الـجنايات . وقد تَعَمَّده و تَعَمَّد له و عَمَده يَعْمِده عَمْداً و عَمَدَ إِلـيه وله يَعْمِدُ عَمداً و تعمَّده، و اعتَمَده: قصده، و العمد الـمصدر منه."[70]" "و اعْتَمَد على الشيء اتكأ واعْتَمَد عليه في كذا اتَّكَل"[71]

وربما لأغراض أسلوبية مستحدثة، نجد شيئاً من هذه الظاهرة أيضاً في المستوى الأدبي والشعري للغة. فها هي عبارة "أحتاج إليكِ" أصبحت "أحتاجك". وعلى النقيض من ذلك، اكتسب الفعل "عانى/يعاني"، مثلاً، في الاستخدام السائر حرف جر لا نجد له أثراً في القواميس القديمة، ثم جاء من الكتاب المحدثين من "أعاد الأمور إلى نصابها" وتخلص، من جديد، من حرف الجر. ففي اللسان: "و الـمُعاناةُ: الـمُقاساة . يقال: عاناه و تَعَنَّاه و تَعَنَّى هو". فبدلاً من "يعاني من الوحدة" – وهي عبارة، بالصدفة، غير متسقة مع لسان العرب - جاء من يقول "يعاني الوحدة" – في اتساق – هو الآخر بالصدفة- مع اللسان. ولعلنا نميل إلى الاعتقاد بأن ذلك "التحرر" من ربقة حرف الجر، يكمن وراءه هاجس أسلوبي بلاغي، وليس من أجل التصحيح والتأصيل، بل قُصِد منه زيادة ضراوة الاحتكاك بين الفعل "الغاشم" والمفعول "الضحية"، حتى يصبح هذا الأخير فريسة لا حائل، وإن يكن لفظياً، بينها وبين مفترسها؛ و لعلهم في "أحتاجك" لجؤوا إلى "إبعاد" حرف الجر في محاولتهم "تأزيم" احتياج المحتاج إلى حاجته. فهل يا ترى نحن موعودون، على ذات الطريق، بأن تحل "اشتقتكِ*" محل "اشتقت إليك"؟.

في مقابل "حركةِ تحررٍ"من الحرف لأغراض "شاعرية" قد يستلطفها من يستلطفها ويستهجنها من يستهجنها، نعثر أيضاً على حركة "اقتلاع" للحرف، لا نظن أنها مقصودة، هذه المرة، أو أنها تؤدي وظيفة ما. فأجهزة الأعلام، شأنها شأن غيرها من مظان المنتجات اللغوية، تعج بالأفعال الحرفية، ويبدو أن الكثير منها مستحدث. لكن المحزن أن الكثير منها يظل عرضة للاضطراب في الاستعمال وعدم الاتساق. فنحن نسمع أحدهم يقول "ورد إلينا" وآخر يقول "وردنا" (وكأنهم ماءٌ أو بئر)؛ وقد نسمع تارة من يقول "الرئيس يصل باريس" وتارة أخرى "يصل إلى باريس"، و"ترتب عن" و"ترتب على" (في غير ما تمييز، مثلاً، لكون التضخم الاقتصادي تترتب عنه ضعف القوة الشرائية وأن أعباء إضافية تترتب على الشخص من جراء التضخم). ونعود من جديد إلى قولهم "الرئيس يصل باريس"؛ فهو إما لغة عامية صحيحة، لكن لا شيء يحملنا على الظن بأنهم قصدوا مخاطبتنا بلهجة عامية، وإما أنها جملة فصيحة لكنها ناقصة وتتمتها شيء من قبيل "بلندن"، أي "الرئيس يصل باريس بلندن". لا شك أنْ لا حكمة في تكبد الرئيس مثل تلك المشقة طالما أن لندن موصولة من قبل بباريس بكل وسائل الوصل والاتصال؛ ولا شك أن "الوصل" من "يصل" غير "الوصول" من "يصل".

ولربما كان ضبط المستخدم من الأفعال الحرفية والأفعال المتعدية بحرف جر وضبط الاستخدام العام لحروف الجر يدخلان ضمن احتياجات شكل الخطاب العربي المعاصر.



























القسم الخامس
تحليل المفاهيم وضبط المصطحات






























الفصل الأول
دوال فعلية، مجاميع فعلية، أشكال فعلية

قد يتعدى الفعل في العربية، في الحالة صفر، مباشرة إلى الاسم [المسايق]، أي بدون حرف جر، في علاقة مؤطرة نحوياً هي علاقة الفعل بالمفعول به (مثال: فتح النافذة). وقد يتوسل، في الحالة الأولى، حرفاً من الحروف - يجري اختياره بناءً على التراكم/التواتر الدلالي للحروف – الذي من شأنه أن يحدد طبيعة علاقته السياقية بالاسم (حكم عليه، حكم له، حكم به). كما يوجد من الأفعال، في الحالة الثانية، ما يتعدى بواسطة حرف بعينه يتم اختياره في العادة بصورة توقيفية لا اجتهاد فيها (أمثلة: وشى بـ، أعرض عن، طمع في). كما يمكن للفعل، في الحالة الثالثة، والتي هي الموضوع الرئيس لإعادة التفكير الراهنة، أن يتحد ضمن تركيبة ثنائية مع أحد الحروف، يجري اختياره إما اعتباطاً، أي دون الرجوع إلى تراكم السياقات الدالة للحرف، وإما بالاستناد إلى تلك الذخيرة، ليكوّن الاثنان في النهاية دالاً واحداً جديداً ذا مدلول جديد غير مدلول الفعل وحده. لكن رأينا أن الدوال الفعلية لم تقف عند هذا الحد فهناك أفعال العبارة والعبارات الفعلية؛ ذلك بغض النظر عن العُبيرات التي تدل دلالة الفعل (مثل تركيب "إليَّ به" = ائتوني به؛ والإشارات الصوتية "صهٍ" = اسكتْ)، مما لم نقف عنده في هذه البحث. فهناك حالتان رابعة وخامسة هما حالتا أفعال العبارة والعبارات الفعلية؛ وتشترك هاتان الفئتان في أنهما يتكونان من فعل يتلوه عدد من المفردات (اسم/ظرف/حرف...).

وسنعرض إلى الفرق بينهما بعد قليل.

الدوال الفعلية:
إن أرسخ المصطلحات هو "الدال الفعلي/الدوال الفعلية"، وهو مصطلح دلالي ألسني عام يشمل الفعل سواءً كان بسيطاً، أي مكوناً من مفردة واحدة، أو متعدد المفردات: قام / قام بـ / وضع في الاعتبار، بالإضافة إلى العبارات (أو العُبيرات) ذات الدلالة الفعلية الجامدة أو غير المتصرفة (إلي به، هيا، صه).

فالفعل في الحالة، صفر، هو دال فعلي بسيط مثل "فتح" في "فتح النافذة" ، وهو كذلك في "حكم على"، الحالة الأولى، و في"وشى بـ"، الحالة الثانية، طالما أن دلالته منفصلة عن دلالة الحرف (دلالة الحكم في "حكم على" والوشاية في "وشى بـ" لا تحتاج إلى الحرف لكي تتحقق).

أما الدال الفعلي المركب فهو الفعل في الحالات الثالثة، الفعل حرفي، والرابعة، فعل العبارة و الخامسة، العبارة الفعلية.


الأفعال الحرفية
إن الأفعال الحرفية، من حيث تكوينها من كلمتين، هي، منطقياً، أفعال عبارة (تتكون العبارة من كلمتين أو أكثر، أو من كلمة واحدة بمثابة الجملة المفيدة: "صه، هيا" وتتميز بكونها دالة وإن لم تشكل دائماً جملة مفيدة، بالمعنى المتواتر في النحو واللغة للجملة المفيدة)، لكن أطلقنا عليها هذا الاسم نظراً لتفردها التركيبي من فعل وحرف وتفريقاً لها عن الدال الفعلي المركب من أكثر من مفردتين (فعل العبارة والعبارة الفعلية). للفعل الحرفي بنية دلالية، عاطلة نحوياً (أي أن الإعراب، بعكس الدلالة، لا يربط الحرف بالفعل بل بالاسم)، وهي لا قياسية، إذ أننا لا نتخذها نموذجاً لإنتاج نسخ متوازية الدلالة، فنقول، مثلاً، "جلس بـ" بمعنى لم يفعل ("جلس بالزيارة*" في موازاة "قام بالزيارة"). لجملة "قام بالزيارة" بنية وتركيب:
بنية: فعل + بـ + اسم = 3
تركيب: (قام+بـ) + اسم = 2
وهذا يختلف عن "حكم على المتهم":
بنية: فعل + على + اسم = 3
تركيب : حكم + على + اسم = 3

فالفرق إذن ليس نحوياً بل دلالي. وهو فرق تركيب وليس فرق بنية.
إن بنية "حكم على" (فعل + حرف الجر "على") تشكل في الحقيقة قالباً دلالياً قياسياً لمعنى عام هو: أن يفعل شخصٌ شيئاً في غير صالح شخص آخر، وهو معنى يشترك فيه عدد آخر من الأفعال:
اعتدى على، هجم على، زاد على، افترى على، تفوق على...الخ
أما "قام بـ" وإن كانت تدل على معنى عام أيضاً: "فعلَ شيئاً ما في إطار تقني"، إلا أنها لا تشكل قالباً قياسياً تشترك فيه أفعال أخرى (على سبيل المثال: فعل به، أحدث به، عمل به لا تشير بالضرورة إلى "فعل شيء ما في إطار تقني"، بل ولا حتى "نهض به" لا تماثل "قام به": نهض بـ = فعلَ شيئاً ما فعلاً يُنْظَرُ إليه نظرة تقريظية أو احتفالية). بناءً على ما ذكرناه، يتمثل الفرق، من جهة ثالثة، بين "حكم على" و"قام بـ" في أن تركيب "حكم" رمزي قياسي، هو: ف + على+أ، أي أن (ف) متغير مثله مثل (أ)، ما يعني إمكانية إحلال فعل آخر (مثل الفعل "اعتدى") مكان "حكم" كما يحل "المجرم" محل "المتهم". أما تركيب "قام بـ" فليس قياسياً، أي أنه ليس: ف + بـ ، بل: قام + بـ ، بمعنى أنه لا يمكن أن نحل فعلاً آخر محل "قام" مع المحافظة على نفس البنية الدلالية (نهض بالزيارة* ¹ قام بالزيارة). وهكذا نستنتج أن من التمايزات أيضاً أن جملة الفعل الحرفي "قام بالزيارة" لا تحتوي إلا على متغير واحد هو الاسم، بينما عدد المتغيرات اثنان في جملة "حكم على المتهم": الفعل والاسم.

وزبدة ما نريد الخلوص إليه من هذا التحليل هو أن "قام بـ = دال فعلي ±" تناظر في حقيقة الأمر "حكم= دال فعلي ±" ولا تناظر "حكم على = دال فعلي + دال حرفي"؛ فإذا ما أردنا أن نحذف جر الجر، الباء، أو نحل حرف جر آخر محله كان ذلك أشبه بمحاولة حذف أحد حروف الفعل "حكم" أو إحلال حرف آخر محله!

فعل العبارة والعبارة الفعلية
الجملة والعبارة:
الجملة تركيب كلي دال، سواءً كانت موقوفاً عندها أو مستأنف ما بعدها. أما العبارة، غير المعرَّفة نحوياً، فتدل على ثلاثة معانٍ:
1/ تعبير أو قول أو جملة لها وضع خاص بسبب قيمتها الأدبية أو التاريخية أو الاصطلاحية أو الأسلوبية أو غير ذلك (نحو: رغم أنف فلان، ضرب الرقم القياسي، "أنا أفكر إذن أنا موجود"...)؛
2/ وحدة تركيبية ضمن جملة كلية (بينما كنا نتحدث (شبه جملة/جملة مُعْتَمِدة)، برق البرق (جملة عامدة)، ثم نزل المطر (جملة معطوفة)؛
3/ تركيب قِسْمي أو عُبَيْرة قِسْمية (قسمي/قِسمية، أي يمكن تؤيله كقسم من أقسام الكلام: اسم، فعل، ظرف، صفة، حال، حرف...، والتركيب القسمي يقابل الكلمة بوصفها بنية قسمية مفردة). تتكون العبارة، بهذا المعنى الثالث، من مفردتين في الغالب:
على استعداد = مستعد > نعت
قام بـ = فعل، أحدث، أجرى > فعل
رغمَ أنفِ = قسراً > حال كيفي
بواسطة = بـ > حرف
من خلال = عبر > ظرف مكان
من حيث = تمييز/ ظرف مجال: السودان أكبر من حيث المساحة > أكبر مساحةً

وهكذا يمكن للعبارة أن تنطبق على العبيرة وشبه الجملة والجملة حسب الاقتضاء. أما في النحو، على سبيل المقارنة بعلم الدلالة، فـ "على استعداد" شبه جملة من جار ومجرور، و"قام بـ" لا عبارة ولا شبه جملة ولا جملة (ولا أي شيء): قام فعل وفاعل والباء لا وجود له (في الإعراب) في غياب الاسم المجرور، وربما يقال عنها "زائدة" حتى في حال وجود الاسم؛ و"رغم أنف" حال/ مضاف ومضاف إليه (مجموع اسمي). أما شبه الجملة فهي جملة معتمِدة تكمل مدلول الجملة الكلية بالتضامن مع جملة عامدة:
إذا غامرت في شرف مروم فــ لا تقنع بما دون النجوم = جملة كلية
إذا غامرت في شرف مروم = شبه جملة/ جملة معتمِدة، تحتوي على رابط يربطها بالجملة العامدة الواقعة بعد الفاء)
فـ = رابط
لا تقنع بما دون النجوم = جملة عامدة

وما يعنينا هنا على وجه الخصوص هو كيفية التفريق بين فعل العبارة والعبارة الفعلية. تتكون الاثنتان من فعل زائداً مفردات أخرى تشكل جميعاً دالاً فعلياً واحداً تكون له إما قيمة اصطلاحية تقنية (في المستويات المتخصصة من اللغة: علمية، قانونية، إعلامية، إدارية...الخ) وإما قيمة أسلوبية عامة وإما قيمة مجازية. لكن فعل العبارة لا يمثل جملة تامة وقائمة بذاتها بل هو عبارة تحتاج إلى "عُرى" لكي تربطها بالسياق:
- وضع في الاعتبار ؛ أحل محل؛ وضع موضع التنفيذ > تحتاج إلى مفعول يوفره السياق؛
- وجد ضالته في؛ أحكم سيطرته على؛ أحال الأمر إلى؛ أحاط علماً بـ > تحتاج إلى اسم مجرور يوفره السياق.
ومن الأمثلة على فعل العبارة:
أبقى قيد الإقامة الجبرية، ألقى القبض على، وضع في الاعتبار، نظر بعين (الاعتبار/ الرأفة)، حمل على محمل الجد، ألقى الضوء على، صرف النظر عن (ترك)، غض النظر عن (تجاهل)، غض البصر (عفةً)، غض الطرف (خجلاً وخزياً)، طوى صحفة (أعلن نهاية)، فتح صفحة جديدة (بدأ بداية جديدة)...الخ.
أما من حيث القيمة الدلالية فمنها ما هو:
تقني > رفع دعوى على/ضد
أدبي تقليدي > لم يجد بُداً من
أدبي مستحدث > حانت منه التفاتة إلى
عام > وضع على المحك
دارج > ألزمه حدوده
دخيل > طرح على بساط البحث
أسلوبي > ما كان منه إلا أنْ


أما العبارة الفعلية فهي جملة تامة "المبنى والمعنى":
"عاد بخفي حنين"؛ "بلغ السيل الزبي"؛ "يصطاد في الماء العكر"؛ "سجل/ضرب رقماً قياسياً"؛ "فتح صفحة جديدة" "وضع النقاط على الحروف"...الخ.
وتنقسم العبارة الفعلية إلى قسمين:
1) قسم لا يجوز إحداث أي تغيير فيه، لكونه مثلاً سائراً، أو حكمة، أو قول مأثور...، نحو: "بلغ السيل الزبي"، "عاد بخفي حنين"...
2) قسم يجوز التصرف في إسناده، نحو: وضعو/وضعنا النقاط على الحروف؛ فتحنا/فتحوا صفحة جديدة...
هذا من حيث التركيب، أما من حيث المضمون فهي تتفاوت أسلوبياً، فمنها الأدبي "وضعت الحرب أوزارها"، والعام "وقف مكتوف الأيدي" ، والدارج "ضرب على وتر حساس"، والدخيل (المترجم) "يصطاد في الماء العكر"...الخ.

الأشكال (الأفعال؟) المركبة
إن تركيب الأفعال المركبة (هيكلها النموذجي) هو "كان يفعل، كان فعل...الخ"، وعلى أساسه يمكننا أن ننتج عدد لا متناه من النسخ: كان يعمل/يأكل، كان عمل/أكل...الخ. ومن شأن مثل هذه التراكيب أو الصيغ الفعلية النحوية أن تكسب الدال الفعلي دلالة إضافية سياقية، ظرفية، لا معجمية، هي الزمن النحوي و/أو الإيعاب؛ وهي تماثل الأفعال والتراكيب والأدوات المقامية (كاد/ لعله يفعل...) في كونها صيغاً أو قوالب فارغة، إذا جاز القول، يمكن أن نصيغ عليها أي فعل من الأفعال. إن ما نسميه بالفعل المركب ما هو إلا كائن نحوي، أو كائن تركيبي سياقي، ما إن نفصل عنه الفعل الرئيسي حتى لا يعود لدينا فعلاً مركباً ولا يتبقى لنا سوى "الفعل المساعد" أو الأداة المقامية: كان، أصبح، لعل...الخ. وهذه الأفعال المساعدة والأدوات المقامية، حين تقترن بفعل رئيسي لا تكون لها دلالة منفصلة، بل تكون دالة بالتضامن مع ذلك الفعل الرئيسي، وتنحصر وظيفتها في تخصيص مدلول ذلك الفعل من حيث تغيير زمانه أو إيعابه أو مقامه:
كان يذهب = ليست هناك كينونة، فالحدث هو الذهاب نفسه في وجود "كان" أو في غيابها، لكن تحددث إشارة الحدث الزمانية (الماضي) وإيعابه (الاستمرار) ومقامه (التحقيق)؛
ما زال يذهب = الحدث هو الذهاب في حال كونه مستمرا لم ينقطع
كاد يذهب = الحدث هو الذهاب في حال كونه أوشك أن يتم ولما يفعل
لعله يذهب = الحدث هو الذهاب في حال كونه مرجواً أو محتمل الحدوث
إذن فإن الأفعال المساعدة، الزمانية والمقامية والإيعابية (كان، أصبح، كاد...)، التي لا تختلف وظيفياً عن الأدوات المماثلة (لعل، ربما، عسى...) ليست دوال فعلية في ذاتها بل دوال سياقية مُعْتَمِدة، زمانية ومقامية وإيعابية. ولكون الأفعال المركبة صيغاً يمكن تطبيقها على أي فعل لتحديد زمنه و/أو إيعابه، شأنها شأن صيغ الفعل البسيطة (الماضي، المضارع والأمر)، فهي تمثل تقسيماً أفقياً للأفعال في مقابل التقسيم الرأسي للدوال الفعلية: فعل بسيط، فعل مجرد، فعل مشتق، فعل حرفي، فعل عبارة،عبارة فعلية..الخ.

الأفعال المركبة
والأفعال البسيطة

أفعال بسيطة
أفعال حرفية
أفعال عبارة
ماض
جاء
قام بـ
وضع ثقته في
حاضر
يجيء
يقوم بـ
يضع ثقته في
أمر
جئ
قم بـ
ليضع ثقته في
ماض تكراري/مستمر
كان يجيء
كان يقوم بـ
كان يضع ثقته في
ماض سابق
كان جاء
كان قام بـ
كان وضع ثقته في
مستقبل ماض/ ماض منتظر/
ماضي شرطي
كان سيجيء
كان سيقوم بـ
كان سيضع ثقته في
ماض تحاللي[72]
كان قادماً
كان قائماً بـ
كان واضعاً ثقته في

بل إننا لنمضي إلى القول إن تسميتها أفعالاً تسمية فيها قدر كبير من التجاوز وتحتاج إلى إعادة نظر: فإذا كان الفعل هو ما دل على حدث فإن الفعل البسيط في (نجح الولد) أو الفعل الأساسي في "كان سينجح" هو الذي يدل على الحدث: نجح الولد ←نجاح، كان سينجح ←نجاح؛ أما الفعل المساعد (كان) والأدوات الأخرى (السين) فإنما هي مكونات يصاغ عليها الفعل لكي يكتسب، إلى جانب دلالته الفعلية، دلالات إضافية (أي تتجاوز الدلالة على الحدث أو الحالة) يحتاج إليها التعبير الفعلي (الزمان/الإيعاب). إذن فإن "أفعال مركبة" تسمية مُضللة، لذلك بدأنا نطلق عليها، منذ القسم الثاني من هذا البحث، اسم "أشكال فعلية مركبة" في مقابل "الأشكال الفعلية البسيطة":
الأشكال البسيطة: 1. أتى 2. يأتي 3. ائت
الأشكال المركبة: 1. قد أتى 2. كان يأتي 3. كان أتى 4. كان قد أتى 5. يكون أتى 6. يكون قد أتى 7. كان سيأتي 8. كان آتياً 9. كان يكون آتياً 10. كان سيكون آتياً

إشكالات اصطلاحية
كان يفعل
بدأ يفعل
بات يفعل
كاد يفعل
طفق يفعل
جعل يفعل
جاء يفعل...الخ
أي فرق "شكلي" بين هذه التراكيب؟
كان يفعل = لا تدل "كان" على معنى مستقل، بل جاءت لتحدد "تزمين" الفعل الرئيسي بإضافة الدلالة الزمنية الإيعابية إليه. فـ "كان" إذن "فعل مساعد"، وهي تختلف عن "بدأ" في أن هذه الأخيرة تدل على معنى منفصل هو البدء. ومثل "بدأ" "جعل" و"طفق" و"كاد" و"جاء". تبقت هناك "بات". فإذا كانت تدل على "المبيت" فهي مثل الأخريات، أما إذا كانت تدل على الزمن (الماضي) وعلى الإيعاب (البدء ثم الاستمرار) فهي مثل "كان". إذن فإن التشابه الشكلي يخفي تحته تباين في الوظيفة: المساعدة من جهة، والدلالة على معنى منفصل من جهة ثانية. فإذا اعتبرنا "بدأ يفعل" مجموعاً فعلياً، فلا يمكننا اعتبار "كان يفعل" كذلك، لسبب واضح هو اختلاف الهوية بين "كان" و"بدأ". وبما أن "كان" فعل مساعد معتمد على الفعل الرئيسي ويؤدي الاثنان، بالتضامن معنى واحداً، فإن "كان يذهب" إنما هي "شكل فعلي" من أشكال الفعل: يذهب، وليست مجموعاً فعلياً على غرار "بدأ يذهب". وتختلف المجاميع الفعلية الأخرى فيما بينها اختلافاً وظيفياً ودلالياً:
بدأ يفهم = مجموع فعلي من فعلين: عامد (أي هو الذي تتغير أشكاله: بدأ، سيبدأ، كان قد بدأ...) ومعتمد (أي لا يتغير شكله، قولنا: سيبدأ سيفهم* غير صحيح نحوياً)، وقد اجتمع الفعلان بغرض أن يخصص الفعل العامد دلالة الفعل المعتمد: بدأ يفهم > بداية الفهم.
جاء يدرس = مجموع فعلي دال على الهدف: هدف المجيء هو الدراسة...الخ.
الفصل الثاني
العبارات الخفية

بعد أن تعرفنا على العبارة ولأفعال العبارة، سنعمد في هذا الفصل إلى استكشاف بعض أنواع العبارات المتخفية.

1/ الأفعال اليتيمة:
هي الأفعال المرتبطة في الاستخدام السائر باسم بعينه (سواء كان مسبوقا بحرف أم لا)، مثل: أوجس خيفة، نبس ببنت شفة/بكلمة/بحرف (دائماً في حالة النفي)، فما أن نسمع الفعل حتى نخمن فاعله، وحتى كأنْ لا وجود للفعل بدون ذلك الاسم. هذا التلازم يكاد يجعل الفعل والاسم مندغمين في دالة واحدة:
لم ينبس ببنت شفة = لزم الصمت فلم يقل شيئاً
أوجس خيفة = انتابه شعور داخلي بالخوف
رَغِمَ أنفُ = التصق أنفه بالتراب كناية عن الذل
سمك السماء = رفعها

وإن تكن عبارة مثل "لم ينبس ببنت شفة" أو "رغِمَ أنفُ فلان" لا تخلو – بالإضافة كون فعلها يتيماً – من الدلالة المجازية (الكناية، على التوالي، عن الصمت وعدم النطق ولو بكلمة واحدة، والكناية عن الذل في الالتصاق بالرغام أي التراب)، فإن ذلك ليس شأن عبارة أخرى مثل "سمك السماء" التي ليست من المجاز في شيء؛ فالفعل "سمكَ" يعني "رفع"، وفي العربية القديمة كان يقال "سمكَ البيتَ" إذا رفع سقفه، لكن شاء الاستخدام – بلا شك تحت تأثير التأدب الديني - تكريس الفعل "سمكَ" لرفع الله السماءَ، حتى لا نكاد نسمع أن أحداً سمكَ شيئاً. إذن فإن يُتم الأفعال اليتيمة، في أغلب أحواله، هو من تكريس الاستخدام لا غير.

وربما اعتبرنا "أسدى" في قولهم "أسدى إليه معروفاً" من الأفعال اليتيمة، إذ بالرغم من أننا نستخدم الإسداء أيضاً للنصح فنقول: "أسدى إليه نصيحة" وللجميل فنقول: "أسدى إليه جميلاً"، فإن المعروف والجميل بمعنى واحد، ولربما عُدَّت النصيحة جميلاً ومعروفاً فألحقت بهما (تحديداً دون غيرها من أنواع المعروف، فلا نقول: أسديت إليه هدية*).
ولعل "ارتكب/اقترف" تعتبر من الأفعال اليتيمة، فهي ترتبط بشجرة دلالية واحدة وإن تعددت فروعها وأوراقها :

ارتكب/اقترف ذنباً/إثماً/كبيرةً
ارتكب مخالفة/جرماً/جريمة

والسبب في اعتبارنا الأفعال اليتيمة من أفعال العبارة هو سبب شكلي: فالفعل منها لا يرد إلا مقترناً باسم بعينه يلازمه ملازمة حرف الجر للفعل الحرفي. وتسري العلة نفسها على أفعال الأسماء اليتيمة والأفعال الميتمة والأفعال الاصطلاحية (وهي غير الأفعال المصطلحة كما سنرى بعد قليل) لكنها لا تسري على أفعال الإسناد الحصري، كما سنوضح أدناه.




2/ أفعال الإسناد الحصري الفردي
تختلف الأفعال اليتيمة عن أفعال الإسناد الحصري، نحو: تبارك وتنزه وفطر[73] (المخلوقات) للذات الإلهية، وخسف للقمر (تنبيه: "خسف بـ"، دال فعلي موازٍ لـ "خسف")، وكسف للشمس (وهذه أفعال إسناد حصري فردي)؛ وحبل وحاض للأنثى، واستمنى للرجل، ونفق للحيوان، وعوى للذئب والكلب، ونهق للحمار... (وهذا إسناد حصري جنسي)، فخصوصية مثل هذه الأفعال هي خصوصية خارجية، لا تعود إلى اللغة، بل إلى المنطق البشري وواقع الحال الموجودين خارج اللغة، وإلا فإن اللغة لا تمنع أن نقول: "حاض الرجل" (الامتناع هنا عقلي) لكنها تمنع، بحكم ما جرى عليه الاستخدام، أن نقول: "أضمر خيفة" بدلاً من "أوجس خيفة"، مثلما تمنع "أكمل نحبه" بدلاً عن "قضى نحبه" (الامتناع هنا لغوي لا علاقة له بالعقل الذي يمتنع عنده الحيض عند الرجل).

وننبه إلى الفرق بين "سمك السماء" (كفعل يتيم) و "فطر السماء" (كفعل إسناد حصري فردي)، فنقول إن السَمْكَ يرتبط بالسماء دون غيرها مفعولاً وبالخالق السامك سبحانه وتعالى دون غيره فاعلاً، أما "فطر" فإنه وإن ارتبط بالخالق الفاطر عز وجل دون غيره فاعلاً إلا أنه لا يتقيد بمفعول بعينه، فنقول: فطر السماء، فطر الأرض، فطر الإنسان...

3/ أفعال الأسماء اليتيمة

ولا نقصد بأفعال الإسناد الحصري أفعال الأسماء اليتيمة، والاسم اليتيم اسم يستدعي، في الاستخدام الأكثر سيرورة، فعلاً بعينه للتعبير عن حدث بدهي أساسي واحد[74] بل، أحياناً، حدث بدهي وحيد يرتبط بوجوده، فيكون ذلك الفعل هو الأولى بذلك الاسم، مثل: "جلس القرفصاء" إذ لا يقبل المنطق أن نقول: "رقد القرفصاء أو وقفها، أو فعل بها أي فعل آخر سوى الجلوس؛ ومثله "رجع القهقرى"، و"مشى الهوينى". ومن الأسماء التي تستدعي فعلاً واحداً بعينه في الاستخدام السائر: الطوى (بات)، الخبب (سار وما في معناه)، حتف (لقي)، النحب (قضى)، الوطر (قضى/نال). إذن ففعل الاسم اليتيم هو فعل حر لكنَّ اسماً بعينه يستدعيه بلا بديل؛ أما الفعل اليتيم فهو فعل مقيد أسره الاستخدام وأصبح مستخلصاً لاسم بعينه فأصبحنا لا نكاد نستسيغ رؤيته مع غيره. ولا ينبغي الخلط بين الأسماء اليتيمة و أسماء الإسناد الحصري، فهذه الأخيرة "غير يتيمة" (الحصر يتعلق بفعل بعينه يصاحبها) أي يمكن إسنادها بحرية إلى أفعال أخرى (جاء الحمار، أكل الحمار...)، بينما الاسم اليتيم يرتبط بفعل واحد هو الأولى به. هذا، وربما كان الاسم اليتيم عبارة أو عُبيرة اسمية يتيمة (مجموع اسمي)، مثل: حتف أنفه (مجموع اسمي/ عبيرة اسمية تدل على الكيفية)، وفعله هو: مات > مات حتفَ أنفه. أما إذا قلنا: أحب الخبب، رأيت الخبب...فذلك "تعسف" لا يقلل من الارتباط البدهي بين الخبب والسير.

ما هي الأحداث البدهية؟
مفهوم الحدث البدهي، الذي شيدنا على أساسه تصنيف الأفعال اليتيمة والميتمة، مستمد من حقيقة كون الأسماء، عموماً، قد ترتبط، من باب أولى في الاستعمال السائر، بأحداث/أفعال هي الأقرب إلى طبيعتها. فالأحداث البدهية للشمس مثلاً: تشرق، تطلع، تكسف، تسطع، تتوسط كبد السماء، تزول، تميل، وتغرب، وتغيب...أما النجوم فتظهر، وتلمع، وتتلألأ، وتأفل... ثم نجد أن الأحداث/الأفعال لا تزال تقل لدى بعض الأسماء حتى نجد من الأسماء ما يرتبط بالكاد بأكثر من حدث بدهي وحيد، كما رأينا في ارتباط القرفصاء بالجلوس.
لنأخذ مثلاً كلمة "التماس" ولنسأل أنفسنا: ماذا نقول عادةً في الالتماس؟ سيجيب منطقنا اللغوي، أي بداهتنا اللغوية، أو فلنقل سليقتنا: رفع/قدم التماسا. أما إذا كانت الإجابة: كتب التماساً، قبل التماساً، وقع على الالتماس...ففي هذه الحالة ليست البداهة هي التي أجابت، بل النظر العقلي هو الذي أجاب. ولنأخذ مثلاً آخر هو كلمة "سليقة" التي استخدمناها للتو، ولنسأل: ما هو الفعل الأكثر ارتباطاً "في سليقتنا" بكلمة "سليقة؟ إنه الفعل تكلم (ومرادفاته).

وها بعض الأمثلة:
العين: ترى (لا تنظر كثيراً)، وتغمض، وتدمع وتبكي؛
والرأس: يشيب (لا الشعر، الذي يبيضُّ، ولا الإنسان الذي يعلوه الشيب) ويثقل ويدور؛
والظهر: يتقوس وينقصم
والأذن: تسمع (لا تستمع و لا تصيخ و لا تنصت)، وتعشق قبل العين أحياناً؛
والطرف: يُغض، ويرتد إلى صاحبه
والجفن: لم يغمض ولم يرف لصاحبه (ليس من السائر القول بالإيجاب: غمض الجفن/ رف الجفن)
الرأي: يقال، ويعبر عنه، ويمحص، ويُخْتَلَف فيه
والقلق: يساور ويراود وينتاب
والأمل: يحدو، ويتحقق، ويتبدد، ويخيب
والمنكر: يُرى ويُفعل و يُنهى عنه ويُغير
والزور: يقال ويُشْهَد
والفساد: يعم ويستشري ويُحارَب
والجراد: ينتشر
والمعدلات: ترتفع وتنخفض (ملاحظة: المواليد والوفيات: لا تفعل بالكاد شيئاً لوحدها إلا إن ترتفع وتنخفض بواسطة معدلاتها ونسبها)
والمستويات: تُرفع
والسهم: يَشُكُّ، وفي الغالب لا يُشك السهمُ إلا الفؤادَ
والعضد: يُشدُّ ويُفتّ منه
والأزر: يُشد منه
والعازل: يلوم (لا يعزل)
والعير: يموت
والأذى عن الطريق: يماط
والنصح: يُمَحَّص

وللمزيد من التوضيح، نورد الأمثلة بطريقة أخرى:
ماذا يُفعل بالكلفة؟ = ترفع
ما الذي يُرفع؟ = الآذان (ما التي تُرفع؟ الكلفة)
ما الذي يضمد؟ = الجرح والجراح (ليس الكلم والكلوم)
ما التي تمطر؟ = السماء (ليس السحاب ولا الغمام ولا الطخا، ولا المزن...الخ)
ماذا يُفعل بالأُكل؟ = يؤتى
ماذا يفعل الشرر = يتطاير
ماذا فعل الوطيس؟ = حمي

إن الاستخدام "المتواطئ" وحده، المحكوم بمنطق اللغة وحده، وليس المنطق العقلي، أو الواقع الخارجي، هو الذي جعلنا لا نفتأ "نمحص النصح" و"نسدي النصيحة" ولا نفعل بهما أشياء أخرى كثيرة، و"نرفع الكلفة" فيما "لا ننبس ببنت شفة" و"نغض من أبصارنا" "وتحمر وجناتنا"، و"نغض الطرف" مع كوننا "لا يرف لنا جفن" و "لا تغمض لنا عين"، وهو ما يجعل "الشكوك تساورنا" و"الهموم تقض مضاجعنا"، فيما "الدنيا تضحك لنا" و"المنية تكشر عن أنيابها"؛ هذا المنطق اللغوي والاستخدام الذي يكرّسه هو ما جعل أشجار البساتين "تؤتي أكلها" و"تموت واقفة".
إن اللغة، هنا، هي التي تتكلمنا، أو تتكلم من خلالنا، و لسنا نحن من يتكلمها.

وهكذا فإن ارتباط "الوطيس" بفعل وحيد هو "حمي"، هو الذي جعل من "الوطيس" اسماً يتيماً و"حمي" فعل اسم يتيم؛ وهكذا أيضاً لم تعثر "بنت شفة" أبداً على من ينطق بها، فارتبطت ارتباطاً مصيرياً بفعل في حالة "نفي" أبدي.

ملاحظة:

إذا تأملنا في الأفعال التي تعبر عن الأحداث البدهية الأساسية لـ "فرصة"، قد نجد أن البعض منها قد لا يشكل عبارة على نحو خاص، لكن البعض الآخر قد يدخل ضمن فئة أفعال العبارة بسبب المعنى الخاص الذي يؤديه:
تحين الفرصة، انتهز الفرصة، اغتنم الفرصة، اهتبل الفرصة، أخذ الفرصة، أعطى الفرصة، أتاح الفرصة، هيأ الفرصة، أضاع الفرصة، فوت الفرصة
فأخذ الفرصة وإعطائها وإتاحتها وتهيئتها، إنما هي تعابير اصطلاحية تتجاوز المعنى الحرفي لتعني:
أخذ فرصته في: استنفد الوقت المتاح له
أعطى الفرصة لـ: 1/ أذن له بالحديث في اجتماع أو نحوه؛ 2/ أفسح المجال لـحدوث أمر من الأمور
أتاح الفرصة لـ: 1/ سمح، مكّن 2/ أفسح المجال لحدوث أمر (في الغالب إيجابي)
هيأ الفرصة لـ: وفر الشروط الملائمة لـ...

4/ الأفعال الاصطلاحية
وتختلف الأفعال اليتيمة وأفعال الأسماء اليتيمة وأفعال الإسناد الحصري عن الأفعال الاصطلاحية ، وهي تلك الأفعال التي، إلى جانب معناها الأساسي، تخصص استخدامُها في نطاق سياقات بعينها، فاقترنت بتلك السياقات، واكتسبت "قيمة تقنية " و"هوية اصطلاحية " في تأدية تلك المعاني. فالمعنى الأساسي للفعل "أدَّى"، على سبيل المثال، كما جاء في لسان العرب، هو : " أَدَّى الشيءَ: أَوْصَلهُ؛ و أَدَّى دَيْنَه تَأْدِيَةً أَي قَضاه؛ ويقال: أَدَّى فلان ما علـيه أَداءً و تَأْدِيةً "، لكننا نستخدم الفعل "أدى" في سياقات تبتعد قليلاً، وقد تبتعد كثيراً أحياناً، عن المعنى الأساسي، فإذا قلنا: أدى الأمانة، بمعنى أوصلها لصاحبها، فإن تأدية الصلاة مثلاً ليست من الإيصال في شيء، لكنها صارت تأديةً مثل تأدية الأمانة بحكم المشابهة في النتيجة في الحالتين؛ ويكاد أداء الصلاة أن يختلف عن تأديتها في كونه أصبح يوحي بالكيفية والطريقة أكثر من إيحائه بحاصل النتيجة. فالأداء أذن فعل تحصيل والتأدية فعلُ حاصلٍ (اختلاف الإفعال في المصدر). نفهم ذلك من أن قولنا "غنى أغنية" لا ينظر إلى الفعل أثناء تحصيله، بل يشير إلى حاصله، ولا ينظر إلى كيفية الفعل، بل إلى نتيجته. أما "أدى أغنية" فإنه ينظر بالأحرى إلى الكيفية التي سار عليها الغناء. لذلك فإن قولنا: أدى الضريبة، وأدى الواجب، وأدى دينه، وأدى خدمة، وأدى الشعائر، وأدى المعنى هو من التأدية، أما أدى أداءً جيداً في المباراة، وأدى عملاً فنياً كالأغنية والرقصة والمعزوفة...فهو من الأداء. والفعل "أدى"، سواءً أداءً أو تأدية، محصور استعماله في سياقات بعينها، فنحن لا نقول "أدى زيارة* (إلا إذا كانت الزيارة من الشعائر أو الطقوس)، ولا نقول أدى قصيدة* (إلا أن يغنيها) بل ألقى أو أنشد (وإن كان الإلقاء والإنشاد يعدان من الأداء)، ولا نقول أدى معروفاً*، أو أدى هدية*، أو أدى تشييد المسجد*، أو أدى إصلاح السيارة*، بل نقول أسدى معروفاً، وأعطى هدية، ونهض بتشييد المسجد، وقام بإصلاح السيارة...الخ. فالفعل أدى يختص إذن بسياقات بعينها وإن تعددت. وفي أحيان كثيرة، لا يكاد فعل آخر مرادف في المعنى يستطيع أن يحل محل الفعل أدى؛ فقولنا "فعل الواجب" و"قام بالواجب" لا يصلحان بديلين عن "أدى الواجب"، لكون "أداء الواجب" (أو تأديته، حسب نظرتنا إلى حاصل الفعل أو كيفية تحصيله) يرتبط، من باب أولى، بمجال الواجب الرسمي والمسؤولية في الحياة المهنية أو العامة، بينما "فعل الواجب" قد يتعلق، من باب أولى، بالواجبات المدرسية، و"قام بالواجب"، يرتبط، من باب أولى أيضاً، بالجانب الأخلاقي والإنساني، ولا يكون بالضرورة مرتبطاً بالمسؤولية الرسمية. والفرق بين قولنا "غنى أغنية" و"أدى أغنية" هو، كما رأينا، فرق بين تقنية الأداء وعمومية الغناء، وفرق بين "تقرير" المختص، الناقد، المقيِّم، وقول الواصف العادي من الناس. وهكذا نرى أن سلوك "أدى" يخالف سلوك فعل مثل "غنى"، لكون هذا الأخير يصلح صلاحية مطلقة لكل أنواع "الغناء"، بينما الآخر لا يصلح إلا لنوع تقني من الغناء. وإذا قلنا "أدى القسم/اليمين" لا نقصد مجرد كون الشخص قد أقسم وحلف، بل نقصد قسماً تم بطريقة قانونية أو دستورية أو بروتوكولية محددة ولأهداف غير مرتجلة؛ ولا تشير العبارة فقط إلى حاصل الفعل بل بالدرجة الأولى إلى كيفية القيام به. وهنا بالضبط يكمن البعد الاصطلاحي والقيمة التقنية للفعل "أدى" كفعل ترتبط دلالاته ارتباطاً ضرورياً بمسايقه الاسم: فمعنى "أدى" في "أدى أغنية" و"أدى القسم" لا يمكن التكهن به من الفعل منفرداً، بل لا بد من النظر إلى مسايقه "أغنية/القسم" لتحديد معناه.

ولا بد أن ننوه إلى أن "اصطلاحية الفعل" تتأتى من إمكانية اصطلاحية كامنة فيه ولا تتحقق له إلا حين يرد في مجال معين، فيكون فعلاً مصطلحاً في حد ذاته دونما حاجة إلى مسايق مجاور له (مثل:"تبخّر" و "تمدد" في مجال الفيزياء، و"تفاعل" في مجال الكيمياء)، فيكون المجال هو السياق الموضوعي الذي يكسب الفعل هويته الاصطلاحية؛ أو حين يتلوه اسم معين، وفي هذه الحالة الأخيرة، نفرقه عن سابقه فنقول فعلاً اصطلاحياً، لكون الاصطلاح الحقيقي إنما يكمن في "العبارة" المكونة منه ومن مسايقه، وهي تمثل السياق الجواري الذي يكسب الفعل صفته اصطلاحية. على سبيل المثال، الفعل "أدى" هو، عموماً، فعل حر، لكنه يحمل إمكانية أن يصبح فعلاً اصطلاحياً، ويتحقق ذلك حين يرد في سياق من نحو: "أدى المباراة...الخ"؛ عندها نعتبره فعلاً اصطلاحياً، فالاصطلاح فيه مرهونً بـالمسايق "المباراة"، الذي يخصص دلالة الفعل مؤقتاً.

إذن، تكتسب الأفعال المصطلحة قيمتها المصطلحية حال ورودها في سياق مجالي معين، والأفعال الاصطلاحية في سياقها الجواري. فالفعل "تفاعل" في مجال الكيمياء يحمل معنى اصطلاحياً، غير معناه العام الذي نجده في المجال الاجتماعي مثلاً، ومثله "أفرز" في مجال الأحياء، و"تمدد" في مجال الفيزياء. إذا قلنا: "ما يتفاعل وما لا يتفاعل" وكان المجال هو مجال الكيمياء، عرفنا أننا بإزاء فعل مصطلح؛ أما إذا قلنا "من يؤدي ومن لا يؤدي"، فإن خلو النص من القرائن الاصطلاحية لا يمكن من تحديد هوية الفعل "أدى". وهكذا، نجد أن الفعل"أدان" في مجال القضاء مصطلح يحمل معنى اعتبار المتهم أو إعلانه مذنباً، ما سوف يستتبع إصدار عقوبة بحقه؛ أما "أدان" في المجال السياسي فتعني الإدانة أخلاقياً (---) وهي اعتبار الشيء منافياً للقانون و/أو للضمير، و"أدان" أقوى من "استنكر" (-) ومعناه عدم القبول أو عدم المواقفة، وأقوى من "استهجن" (--) ومعناه اعتبار الشيء معيباً، لكن "استهجن" يعبر عن حكم انتقائي فهو بذلك يصلح لانتقاد جانب من الشيء دون سائره، ففي لسان العرب: "الهجنة من الكلام ما يلزمك من العيب"، أي الجوانب المعيبة من كلامك؛ لكن الإدانة أدنى حدة من الشجب (----) لأن الأخير يحمل معنى التقريع بالإضافة إلى الاستبشاع (كانت العرب تقول: ماله؟ شجبه الله! أي أهلكه)، وأكثر منه حدة التنديد (-----) ففيه تستخدم العبارات الجارحة التي تتجاوز ذم العيب، موضوع التنديد، إلى نبش عيوب أخرى، جاء في لسان العرب: "ندد بالرجل": أي أسمعه القبيح وصرح بعيوبه).

فالأفعال المصطلحة أفعال مفردة يمثل الواحد منها مصطلحاً في ذاته عند وروده في سياق مجالي معين. وهي تختلف عن العبارات المصطلحة ذات القيمة التقنية (رفع دعوى ضد) والعبارات الاصطلاحية أو المجازية (أقام الدنيا ولم يقعدها). وكل من العبارات المصطلحة والعبارات الاصطلاحية هي من أفعال العبارة. أما الأفعال الاصطلاحية (مفردها فعل اصطلاحي، أي فعل يكتسب الصفة الاصطلاحية اكتساباً في سياقات جوارية بعينها، فتكاد هي الأخرى أن تكون من أفعال العبارة، لأن الفعل منها لا يكون اصطلاحياً إلا حين يرافقه اسم بعينه، فكأنه وذلك الاسم يشكلان معاً عبارة اصطلاحية:
- تناول الموضوع/الوجبة ("تناول ورقة" ليس فيها قيمة اصطلاحية)،
- أدلى بتصريحات/بأقواله، ("أدلى بدلوه في البئر" ليست من الاصطلاح في شيء)
- أصدر (بياناً/قراراً/تعليمات/توجيهات/شيكاً/صحيفة/حكماً...الخ)
- سن سنةً، سن قانوناً (سن سكيناً ليس فيها معنى اصطلاحي)،
- استأنف الحكم (استأنف الحديث، ليس اصطلاحاً)،

وفيما يلي طائفة من الأفعال الاصطلاحية:
سجل:
سجل مخالفة
سجل وقائع
سجل رقماً قياسياً
سجل ارتفاعاً/انخفاضاً
قدم/ تقدم بـ:
قدم أوارق اعتماده
قدم طلباً
قدم استئنافاً

فتح:
فتح حساباً مصرفياً
فتح متجراً (لا تعني الفتح اليومي لأبواب متجر قائم لاستقبال الزبائن، بل القيام بالإجراءات الرسمية والعملية لإطلاق النشاط التجاري)


رفع:
رفع دعوى ضد/على
رفع الحصار عن
رفع الكلفة بين
رفع رواتب
رفع مستوى/درجة

وضع:
وضع حجر الأساس
وضعت طفلاً (عبارة "وضعت المربية طفلاً على الأرجوحة" ليس من الاصطلاح في شيء)
وضع حاجزاً
وضع عراقيل


5/ الأفعال الميتَّمة
إن الفعل "ضرب" هو، في الأساس، فعل حر، يرد بمعان مختلفة حقيقية ومجازية. وبالمثل، فإن الاسم "مثل/أمثال" هو اسم كسائر الأسماء في كل سياقاته: "جمع الأمثال، كثرت الأمثال....". لكن حين يجتمع الفعل والاسم في سياق بعينه هو"ضرب مثلاً/ الأمثال" فإن الفعل لا يعود حراً في دلالاته، بل يرتبط بدلالة معينة موقوفة، ولا يستطيع الاسم فكاكاً من الفعل إلا أن ينفرط عقد المعنى. فلا الفعل "ضرب" كان في الأصل يتيماً، ولا الاسم، حتى اجتمعا. ( ربما يمكن أيضاً النظر إلى "ضرب" بوصفه الحدث البدهي الأساسي لـ مثل/أمثال).

ومثل "ضرب" في سياق الأمثال "أقام" في سياق الحدود، فنقول "أقام عليه الحد" بمعنى طبقه وأوقعه عليه. ولا نرانا نقول "أقام عليه الضرب أو السجن" أو "مكث عليه الحد" (على أساس أن "أقام" تعني "مكث). فعبارة "أقام الحد":
- لا يمكن مقارنتها دلالياً بـ: أقام جداراً مثلاً، فهذه تحتوي على دالين هما الإقامة (جعل الشيء قائماً) من جهة والجدار من جهة ثانية، أما في "أقام الحد" فإن الإقامة بمجرد فصلها عن "الحد" لا تعود تدل على المعنى الذي تدل عليه في حال اقترانها به (أقام = نزل، شاد، استقر، أدام، رفع...الخ).
- لا تساوي دلالياً قولنا "طبق الحد" لأن قسمي العبارة هنا دلان منفصلان، كما نقول "طبق القانون/ الدستور/ الأحكام العرفية...الخ؛ و الفعل "طبق" بوصفه فعلاً تقنياً فإنه قد يفتقر، في حال اقترانه بـ "الحد" إلى المضامين التي تشي بها "إقامة الحد". فهذه الأخيرة لا تخلو من الاحتفاء بالحدث وتمجيده، أو على الأقل "الاعتراف به"، بينما "تطبيق الحد"، على العكس، يمكن ألا يتضمن بالضرورة "تعاطفاً" مع الحدث. وهكذا بينما سيتراوح "تطبيق الحدود" ما بين كونه مصطلحاً تقنياً-قانونياًً، أو فعلاً محايداً أو ربما "مناوئاً" لتطبيق الحدود، يبقى مصطلح "إقامة الحدود" مصطلحاً دينياً يصدر، في الأرجح، "من داخل" الدين.


وليس ثمة من مبرر لـِِ، أو فائدة من، الحديث عن معنى مجازي قبلي في "ضرب" أو "أقام"، طالما أن مستخدمي اللغة غير معنيين إطلاقاً بالمجاز والبلاغة حين يقولون: أقام الحد أو ضرب مثلاً.

وفي هذا الصدد، لا تخلو تأويلات المعجميين القدماء لمعنى ضرب الأمثال من التعسف، ففي اللسان:
" ضَرَبَ الله مَثَلاً أَي وَصَفَ وَبَـيَّن، وقولهم: ضَرَبَ له الـمثلَ بكذا، إِنّما معناه بَـيَّن له ضَرْباً من الأَمثال أَي صِنْفاً منها". سنقول مطمئنين إن الوصف والتبيين حدثان شديدا العمومية واسعا الكيفية؛ أما "ضرب الأمثال" فهو، على الأقل، نوع خاص جداً من الوصف والتبيين، أو هو حدث قائم بذاته وما الوصف والتبيين إلا حدثين يتبعانه، كما يتبع تحقيقُ الغرض الفعلَ، ويترتبان عنه، كما تترتب النتيجة عن السبب؛
وفي النهاية[75]:
" تكرر في الحديث " ضرْبُ الأمثالِ " وهو اعْتِبارُ الشيء بغيره وتَمْثيلُه به . والضَّرْبُ : المِثَالُ".
لكن إن كان الضرب يعني المثال، فالمثال لا يعني المثل بل النوع والصنف.
مهما يكن من أمر، فإن ما يجب الانتباه إليه هو أن الضرب في سياق الأمثال ليس من باب ضربِ زيدٍ عمرواً، ولا من باب ضروب الشيء وأنواعه وأصنافه، بل هو ضرب يختص بالأمثال، ولا يتلبسه هذا المعنى إلا مقترناً بمثل/أمثال. ألا نرى أنه لا يمكن القياس دلالياً أو تركيبياً عليه فيقال: "ضربَ حكمةً*"؟ فلهذا السبب لا يجوز فصل المفردتين البتة، فما من فعل آخر في العربية يستطيع أن يحل محل ضرب، فإذا قلنا: "قال مثلاً، أعطى مثلاً، قدم مثلاً..." لن يكون فهم المعنى بالبداهة التي نجدها في "ضرب مثلاً" (لكون القول والعطاء والتقديم ليست أحداثاً بدهية للأمثال):
- قال مثلاً = 1/ قال: "مثلاً"، أي أن "مثلاً" هي مقول القول؛
2/ ذكر مثلاً سائراً من نحو: "قطعت جهيزة قول كل خطيب"، أي تمثل مثلاً.
- أعطى مثلاً = على سبيل المثال، أعطى...
- قدم مثلاً = على سبيل المثال، قدم... أو فضل مثلاً على مثل آخر.
فلعل الصواب هو أن ننظر إلى الفعل"ضرب" في سياق الأمثال بوصفه الفعل المعبِّر عن الحدث البدهي الأساسي للأمثال، أو بوصفه فعلاً ميتماً، ذلك بدلاً من الدخول في تأويلات لا شك ستبعدنا عن مراقبة السلوك السياقي لهذا الفعل والأفعال المشابهة له. أما ما جاء في لسان العرب في ما دة ض ر ب:
"وقوله عز وجل: " كذلك يَضْرِبُ الـحقَّ والباطلَ"، أَي يُمَثِّلُ الله الـحقَّ والباطلَ، حيث ضَرَبَ مثلاً للـحق والباطل والكافر والـمؤمن فـي هذه الآية" فهو لربما كان يذكِّر فقط، على أكثر تقدير، بالأصل "الإيتيمولوجي" الذي جاء منه هذا التعبير، لكن هذا الأصل لم يعد مستعملاً، وإلا فإننا لا نقول، لا في السبوق ولا في الرهون: "ضربَ الكافرين والمؤمنين" بمعنى يمثِّل الله الكافرين والمؤمنين.

ومثل "ضرب مثلاً" أيضاً التعبير الشائع "طلب يد الفتاة". فهذا التعبير، الذي يكنى به عن الخطبة، هو أقرب للاصطلاح منه للمجاز والكناية. من الواضح أن الكناية المزعومة لا تكمن في الفعل "طلب" طالما أن الخطوبة أصلاً نوع من الطلب (سنشير فيما سيلي إلى أن العبارة الكنائية لا تتحقق بمفردة واحدة فيها). فهل تكمن في "يد"؟ كلا، فاليد، ويا للمفارقة، لا تشير إلى الفتاة المخطوبة في أي سياق آخر، فلا نقول "ترك يدها" بمعنى فسخ خطبته لها. فـ "اليد" هنا تختلف عن العصا في "ألقى عصاه"، فإلقاء العصا يدل على ترك السفر، وأخذها يدل على استئنافه. بل أن العصا لترتبط بالسفر حتى قد لا نستغرب من قائل يقول "انكسرت عصاي" كنايةً عن عائق يمنعه من السفر. وبالمثل، ليست "اليد" في "طلب يدها" تماثل "اليد" بمعنى المنة والجميل. فيد الجمائل تحتفظ بوظيفتها المجازية في الكثير من السياقات، من نحو "له عليّ أياد" و"طوقني أو أغرقني بأياديه". وهكذا يثبت لنا أن "يد"، دون سواها من أعضاء الفتاة، حين تقترن بالفعل "طلب"، دون غيره من الأفعال يتأتى لنا معنى "الخطبة" (لا نقول أراد يدها أو سأل يدها)؛ وبذلك يصبح الفعل والاسم "متيتمين" لتأدية هذا الغرض الاصطلاحي.

و نلاحظ أن الفعل الميتم يختلف عن الفعل الاصطلاحي. فالفعل "أدى" في "أدى أغنية"، باعتباره هنا فعلاً اصطلاحياً، يختلف عن الفعل الميتم "ضرب" في "ضرب الأمثال"، لكون الأداء فعل يمكن أن ينفصل عن الأغنية ويحتفظ بنفس معناه في سياقات أخرى من نحو "أدى المباراة، أدى دوره في المسرحية..."، بعكس "ضرب الأمثال" فهو لا وجود له بنفس معناه بمعزل عن الأمثال: "ضرب حكمة/ قصة*".

وأخيرا، نشير إلى أن الفرق بين الفعل الميتم "ضرب مثلاً" وبين أفعال العبارات الاصطلاحية مثل "سجل رقماً قياسياً" هو أن الاصطلاح في الأخيرة تقني خاص، وفي الأولى أسلوبي عام.
حول طبيعة العبارة الاصطلاحية والمجازية:
ربما يجدر بنا التنبيه إلى أن الفعل في العبارات الكنائية مثل: "نزلت بوادي غير ذي زرع"، أو "جاء رغم أنفه" لا يعد جزءاً من العبارة، فهذه تقتصر، في المثال الأول، على "واد غير ذي زرع"، وهي مجموع اسمي نعتي لا فعل فيه، وفي المثال الثاني على "رغم أنفه". ويمكن بالتالي اختيار أي فعل آخر يناسب مراد المتحدث: "اشتريتَ وادياً غير زرع" أو "رضي رغمَ أنفه".

إذن فإن الفعل الوارد في االتعابير الكنائية والاصطلاحية ليس فعلاً اصطلاحياً أو مجازياً في حد ذاته، فالمجاز والاصطلاح المقصودان إنما يكمنان في كامل العبارة:
"وضع ثقته في شخص"
يدل "وضع" هنا على ما يدل على مثيله في "وضع الكتاب على المنضدة"، وإنما يكمن المجاز في عبارة "وضع الثقة" كلها. ومثل ذلك:
"ألقى العصا"
"ترك الحبل على الغارب"
"عاد بخفي حنين"
ويكمن الفرق بين الفعل في هذه الأمثلة وفي عبارة استعارية مثل "قتل الوقت/الفراغ" في أن "قتل" يحمل، في ذاته، معنى مجازياً قبلياً يتأتي له تلقائياً في مثل هذا السياقات (قتل المسألة بحثاً؛ قتله الهم) ويكون هذا المعنى مقصوداً لذاته أو بارزاً في العبارة؛ أما الأفعال في العبارات الكنائية والاصطلاحية فهي تحمل معناها الحقيقي أو المجازي لكن لا يكون هو المقصود ولا يكون بارزاً في العبارة؛ وإنما يتحقق معنى العبارة، سواء كان مجازياً أو اصطلاحياً، تحقُّقاً بعدياً للتعبير بأكمله. إذن فالقاعدة هنا ذات شقين:
1. المعنى الحرفي: يمكن أن نفهم معنى التعبير فهماً لغوياً حسب الوضع الدلالي لمفرداته في مرحلة أولى > هذا المعنى ليس هو المقصود من وضع العبارة؛
2. المعنى الاصطلاحي: ثم نفهم، في مرحلة ثانية، دلالة التعبير الكلية، الرمزية/الكنائية/الاصطلاحية، في تجاوز تام للدلالات الفردية لمكوناته.

وقد يكون الفعل مجازياً أو اصطلاحياً في نفسه، لكن مجازية معناه أو حقيقته ليست بذات أهمية خاصة في المعنى المجازي/الاصطلاحي للعبارة. نرى ذلك في تعبير اصطلاحي يرد فيه الفعل بالمعنى المجازي هو "ضرب الرقم القياسي". يستمد هذا التعبير هويته الاصطلاحية من التعبير كله وليس من أحد مكوناته. فحين نقول "ضرب الرقم القياسي[76]" ينبغي أن لا يلهينا المدلول المجازي الفردي، غير المقصود من التعبير، للفعل ضرب ، عن المعنى الاصطلاحي المقصود من التعبير بأكمله. فمهما كان ما نفهمه من معاني الفعل ضربَ ( الضرب أو التحطيم أو التكسير أو السحق أو القتل...)، فإنما التعويل على كون المتسابق قد حل محل "البطل الأول" السابق متجاوزاً له.. فالعبرة هنا إذن هي في معنى التخطي والتجاوز الذي حاق بإنجاز كان هو الأول في السابق، وهو معنى يدل عليه التعبير بتضافر كل مكوناته، ولا يجوز مطلقاً الاعتقاد أن الفعل ضربَ بمفرده صار له معنىً جديد هو: تجاوز وتخطي رقماً قياسياً (ما سيعني أن الفعل ضرب صار يدل، لأول مرة، على الهدم ثم البناء ثم التجاوز) . وفي هذا التعبير بالذات نلاحظ أن الفعل يؤدي دوره في التعبير بمعناه وليس بالضرورة بمبناه: فقد استعملوا، من ذي قبل، حطم بديلاً لـ "ضرب"، ولعل من الممكن أيضاً، على الأقل نظرياً، استخدام "سحق". لكن هذا التصرف المحدود في مرادفات الفعل (دون أن نغالي فنقول دمر...) قد يضعف من "البعد التقني" للمصطلح ويحوله من مصطلح تقني إلى مصطلح أسلوبي. أما الاسم والصفة "الرقم القياسي" فهما يردان بمبناهما ومعناهما، فلا يجوز تغيير الاسم فنقول "العدد" ولا النعت فنقول "المعياري": "دمر العدد المعياري*". وهكذا يمكن أيضاً، من ناحية أخرى، النظر إلى حقيقة الفعل ضرب/حطم/ المجازية بمعزل عن المدلول الكلي للتعبير. إذن فإن ضرب/حطم يلعب دوراً مزدوجاً: فعل مجازي في ذاته (ضرب الرقم القياسي = المعنى القبلي: كسّر الرقم القياسي)، من ناحية، وفعل ضمن عبارة اصطلاحية تقنية، من ناحية ثانية (= المعنى البعدي: سجل رقماً أعلى تجاوز به الرقم السابق).

ثم لنضرب مثلاً بفعل يدل على معناه الحقيقي في عبارتين إحداهما عادية والأخرى اصطلاحية:
"وضعَ حجارةَ الأساس" "وضعَ حجرَ الأساس":
يتعلق الأمر في الحالين بوضع حجارة وحجرٍ تتعلق بالأساس، وهو ما يحدث في الواقع حين يضع عامل البناء الحجارة لرفع أساس المبنى وحين يضع المسؤول الكبير حجرا خاصاً عليه نقش كتابي بيديهما. ما يميز "وضع حجر الأساس" عن "وضع حجارة الأساس" هو طقسية الحدث ورمزيته والتوافق "البعدي" على فهم معنى التدشين وبداية التأسيس في "وضع حجر الأساس". يشير اختيارنا للمثال المقابل "وضع حجارة الأساس" إلى أنه لا يجوز أن نغير من مفردات التعبير الاصطلاحي فنضع مرادفات بديلة لها (إذا قلنا: "وضعَ لبنة الأساس" فهمنا معنى مغايراً، هو الكناية هذه المرة، لكنه غير رمزي وغير اصطلاحي مثل سابقه).

















ملحق رقم 1
مثال السلوك الدلالي للفعل (ضرب)
(أغلب المعاني والأمثلة بتصرف عن لسان العرب، النهاية، مختار الصحاح، معجم الأفعال المتعدية بحرف، انظر المراجع)

أولاً: صرفياً ونحوياً

1) الجذر: ض ر ب

2) المصادر: ضرباً وضَرْبةً وضِرْبةً وضرباناً

3) الصيغ البسيطة المجردة:
وزن "فَعَلَ"
ضَرَبَ
وزن "فُعِلَ"
1- ضُرِبَ: طبيعته التي ضرب عليها، أي خلق وفطر
2- ضُرِبَتِ الأَرضُ ضَرْباً وجُلِدَتْ وصُقِعَتْ: أَصابها الضَّريبُ، كما تقول طُلَّتْ من الطَّلِّ.
وزن فَعِلَ
1- ضَرِبَ النباتُ ضَرَباً فهو ضَرِبٌ : ضَرَبَه البَرْد، فأَضَرَّ به.

4) الصيغ البسيطة الاشتقاقية: (لم نعمد إلى التمثيل لها، مكتفين بالمجرد)
1- أضرب
2- ضرَّب
3- ضارب
4- تضارب
5- اضطرب
6- تضرَّب = اضطرب
7- استضرب = العسلُ، غلظ وابيض

5) الصيغ المركبة:
1- أفعال حرفية
1. ضرب في = سافر
2. ضرب عن = كفّ، انصرف
3. ضرب ب = خلط
4. ضرب بـ = أقام
5. ضرب بـ = أصاب
6. ضرب إلى = مال (في الألوان خاصة)
7. ضرب إلى = أشار (بيده، بعصاه...)
8. ضرب إلى (وقت) = حدده
9. ضرب على = غطى
10. ضرب على = أوجب
11. ضرب بين = بعّد؛ أغرى
أمثلة:
1- يضرب في الأرض/البلاد/سبيل الله/التجارة...الخ
2- ضَرَبْتُ فلاناً عن فلان أَي كففته عنه.
3- حتى ضَرَب الناسُ بِـعَطَنٍ " أي رَوِيت إبُلُهم حتى بَرَكت وأقامَتْ مكانها
4- ضُرِبَ بـِـبَلـيَّةٍ: رُمِيَ بها
5- ضربتْ عليهم ضريبة من الجزية
6- ضَرَبَ اللـيلُ علـيهمْ
ضُرِبَ علـيها حِجابٌ
7- ضرب بيده إلى بيت من بيوت القرية = أشار
8- يضرب لونه إلى الحمرة
9- ضَرَبَ علـى العَبدِ الإِتاوَةَ ضَرْباً: أَوْجَبَها علـيه
10-ضرب بينهم في حرب أو شر = أغري
11-ضَرَبَ الدهْرُ بَـيْنَنا أَي بَعَّدَ ما بَـيْنَنا، قال ذو الرمة:
فإن تضرب الأيام يا مي بيننا * فلا ناشر سراً ولا متغيرُ
وقال تعالى: "فضرب بينهم بباب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب".

2- أفعال عبارة:
1- ضَرَبْتُ له الأَرضَ كلَّها أَي طَلَبْتُه فـي كل الأَرض
2- ضَرَبَ علـى يَدِه: كَفَّه عن الشيءِ.
3- ضَرَبَ علـى يَدِ فُلانٍ إِذا حَجر علـيه.
4- " فأرَدْتُ أن أضْرِبَ على يَدِه " أي أعْقد معه البَيْع لأنَّ من عادة المُتَبايِعين أن يَضَع أحدُهما في يد الآخر عند عَقْد التَّبايُع
5- ضَرَبَ البعيرُ فـي جَهازِه أَي نَفَرَ، فلـم يَزَلْ يَلْتَبِطُ ويَنْزُو حتـى طَوَّحَ عنه كُلَّ ما علـيه من أَداتِه وحِمْله.
6- ضرب الليل عليهم = طال
7- ضرب على المكتوب = ختم
8- ضرب حصاراً على المدينة

3- عبارات فعلية
1. َ ضرب في سبيل الله
2. ضَرَب الدهرُ ضَرَبانَهُ كقولهم: فَقَضى من القَضاءِ، و ضَرَبَ الدهْرُ من ضَرَبانِه أَنْ كان كذا وكذا .
3. يضرب أكباد الأبل = يركب ويسافر على الأبل
4. ضَرَبَتْ فـيهم فلانةُ بِعِرْقٍ ذي أَشَبٍ أَي التِباسٍ أَي أَفْسَدَتْ نَسَبَهُمْ بولادَتِها فـيهم، وقـيل: عَرَّقَتْ فـيهم عِرقَ سَوْءٍ.
5. ضرب بذقنه = جين وخاف
6. ضَرَبَ اللـيلُ بأَوْراقِه: أَقْبَلَ؛ قال حُمَيد:
سَرَى مِثْلَ نَبْضِ العِرْقِ واللـيلُ ضارِبٌ *** بأَرْواقِه والصُّبْحُ قد كادَ يَسْطَعُ
7. ضرب في الماء = سبح
8. ضرب على المكتوب = ختم
9- ضُرِبَ على أصْمِخَتهم
9. ضرب على آذانهم
10. ضرب على وتر حساس
11. ضرب أخماساً في أسداس

ثانياً: دلالياً: (بعض القيم الدلالية للفعل المفرد، مع ملاحظة
كون أغلب الأمثلة أعلاه تنطوي على قيم مجازية)
الحقيقة:
مثال: يضرب ابنه
المجاز والاصطلاح:
أمثلة:
1. ضرب خيمة
2. ضرب المعارضة
3. ضَرَبَ العِرْقُ ضَرَباناً وضَرْباً إذا تحرّك بقُوّة
4. ضَرَبَ الوَتِدَ يَضْرِبُه ضَرْباً: دَقَّه حتـى رَسَب فـي الأَرض
5. ضَرَبَتَ الـمَخُاضُ إِذا شالتُ بأذنابها، ثمّ ضَرَبتْ بها فُروجَها ومَشَت، فهي ضَواربُ.
6. ضَرَبَ الـجُرْحُ ضَرَباناً = آلم.
7. ضرب النقود = سكها
8. ضَرَب الجملُ الناقَة = نزا عليها
9. فلان يَضْرِبُ الـمَـجْدَ أَي يَكْسِبُه ويَطْلُبُه
10. ضَرَب يَعْسُوبُ الدِّين بذَنّبِه
11. ضَرَّبَتْ عينُه: غارَتْ
12. ضرب الجرس
13. و ضَرَبَت العَقْربُ تَضْرِبُ ضَرْباً: لَدَغَت
14. ضرب موعداً
15. ضرب مثلاً
16. ضرب الغائط إِذا مَضَى إِلـى موضع يَقْضِي فـيه حاجته
17. ضَرَبَ بالقِداحِ، و الضَّريبُ و الضَّارِبُ: الـمُوَكَّلُ بالقِداحِ، وقـيل: الذي يَضْرِبُ بها.
اصطلاح تقني (أفعال عبارة/عبارات فعلية/فعل اصطلاحي):
1. ضرب الرقم القياسي
2. ضرب حصاراً على
3. ضرب (رقماً) في (رقم)
4. ضرب النقود


[1] "نظر إلى" عبارة عامة مكونة من دالين منفصلين وتدل على إلقاء النظر بمعناه الاعتيادي ("نظر" تدل على "إلقاء النظر" و "إلى" أداة تمكن للتعدية غير المباشرة فيما تشير إلى اتجاه حركة الفعل ومن ثم إلى مكان وقوعه)؛ أما "نظر في" فعبارة اصطلاحية اتحد فيها الفعل والحرف ليدلا، بالتضامن، على معنى الدرس والفحص (و/أو التشاور) للخروج برأي علمي أو بقرار إداري أو قانوني، حسب اقتضاء السياق.
[2] القرآن، سورة الكهف (18)، الآية 100.
[3] لأغراض هذا البحث، سوف نستخدم كلمة "مسايق"، أي مجاور في السياق النصي، كمصطلح دلالي مؤقت يشير إلى أي من مفردات الجوار السياقي في علاقته دلالياً بمجاوره، بغض النظر عن طبيعة الإسناد بينهما (فاعل، مفعول، مجرور) أو الحالة الإعرابية (مرفوع، منصوب، مجرور).
[4] انظر الملحق رقم 2، الذي يحتوي على حوالي الألف من أفعال العبارة القديمة والحديثة.
[5] يحتوي الملحق رقم 3 على حوالي الألف من أفعال العبارة والعبارات الفعلية.
[6] لم نلق كبير بال، في هذا البحث، لورود أفعال قليلة مع "دون" و"بين"، وهما المصنفتان تقليدياً في عداد الظروف وليس ضمن حروف الجر. والسبب في ذلك هو أن الظروف نفسها يعود كثير من النحاة فيدخلونها في القسم الثالث من أقسام الكلم، أي قسم الحروف. ولا شك أن الخوض في أقسام الكلام ليس من اختصاص هذا البحث.
[7] عمدنا، بالتحليلٍ المُمْعَنٍ لرؤية دو سوسور، إلى النظر إلى اللغة ضمن زوجين من المستويات:
أولاً: (على صعيد المجتمع الناطق) مستويا المنهاج والنتاج: ما بين اللغة كمنهاج، أي بوصفها نظاماً لشفرة تواصل، مستقلاً وخارجياً ومترفعاً، يكون بمثابة العقد المقدس أو المرجع التفصيلي المحفوظ، من جهة، وبين الكلام كنتاج، من جهة ثانية، أي حاصل ما قد أنتجه المجتمع الناطق من الكلام المستهدي بالمنهاج؛
ثانياً: (على صعيد الفرد الناطق) مستويا الاستنهاج والإنتاج: ما بين مستوى الاستنهاج لدى الفرد الواحد (أي الحصيلة من اللغة، المنهاج، التي اكتسبها الفرد وخزنها في وعيه ولاوعيه لكي تكون أداته في ما ينتجه من كلام) ومستوى الإنتاج لديه، أي الكلام الذي ينتجه الفرد الواحد (مقارنةً بملكة الاستنهاج لديه من جهة، ومقارنة بكلٍ من النتاج والمنهاج من جهة ثانية). إذن، نلاحظ هنا إمكانية المقارنة الأفقية بين المستويات: منهاج/نتاج (تمثُّل اللغة في كلام الناطقين بها) واستنهاج/إنتاج (مقدرة الفرد على استخدام الحصيلة التي اكتسبها من اللغة في إنتاجه اللغوي) وكذلك المقارنة الرأسية: ما بين المنهاج في الأعلى والاستنهاج في الأسفل (مقدرة الفرد الواحد على التفاعل مع النموذج) وما بين النتاج والإنتاج (خصوصية إنتاج الفرد في مقابل النتاج اللغوي لمجتمعه). ونلاحظ أيضاً أن الاستنهاج هو مُصَغَّر المنهاج، وأن الإنتاج هو مصغر النتاج.

[8] توصلنا من خلال رصد البحث الألسني في العربية إلى قناعة مفادها أن مصطلحي دو سوسور (Diachronie/Synchronie) - المهمين جداً، والذين يفرق بهما بين وضع اللغة من خلال انتمائها إلى الزمن السابق ووضعها المنتمي إلى الزمن الراهن - لا بد من ترجمتهما بلفظين عربيين غير مركبين يكونان قابلين للاشتقاق، ذلك بدلاً عن الترجمة المتداولة (الوضع التاريخي/الوضع الآني). فما يعيب مثل هذه الترجمة هو أن مدلولات كل من "تاريخ" و"وضع" و"آن"، مع ما يشوبها من عدم الدقة الكاملة، قد أضحت مستهلكة، ولم يعد الدال فيها "بارزاً لفظياً"، فلا توحي إلى القارئ بأن وراءها مفهوماً جديداً يجب عليه أن يدرك ماهيته؛ ثم إنها "غير طيِّعة" في الاشتقاق (اشتقاق صيغ النعت والحال وظرف الزمان مثلاً). فاقترحنا "السبوق" للأول (مع امكان الاشتقاق: سبوقي، سبوقاً، سبوقياً، في السبوق) و"الرهون" للثاني (مع امكان الاشتقاق: رهوني، رهوناً، رهونياً، في الرهون). وسيلاحظ الكاتب والمترجم الحاجة القوية إلى الاشتقاق.
[9] "التعالق" ترجمةٌ اقترحناها للمصطلح الغربيcorrelation ، على ضوء القيم الدلالية للزوائد التي تلحق بالفعل العربي (القيمة "التبادلية" لصيغة "تفاعل").
[10] ابن جني، الخصائص، 2/231.
[11] نقد النحو العربي نشاط قديم قدم النحو العربي نفسه. ولعلي يحلو لي أن أعيد القول من جديد بأن معظم أوجه الانتقاد المتأخرة تجد أصلاً لها أو إرهاصاً بها في آراء النحويين والأدباء القدماء أنفسهم. ثم جاء العصر الحديث فتبلورت رؤى ناقدة للنحو العربي تمثلت في اتجاهين: الاتجاه الاستعرابي "الاستشراقي" الذي تأثر بنحو اللغات الأوربية أولاً ثم بالدراسات الألسنية ثانياً، وقد بدا، أحياناً، وكأنه "إعادة- نحونة" للغة العربية؛ والاتجاه العربي سوءا كان متأثراً بدواعي التأصيل أو بالاستعراب و/أو بالألسنية أو بالدعاوى الإيديولوجية.
[12] انظر "حروف المعاني" لابن اسحق الزجاجي، تحقيق على توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984، و"منازل الحروف" لأبي الحسن الرماني، تحقيق إبراهيم السامرائي، دار الفكر، عمان، بدون تاريخ.
[13] جاء في همع الهوامع: "قال ابن الحاج في النقد حكى العبدي في شرح الإيضاح أن المبرد قال: إن "كان" حرف... وذهب الزجاجي إلى أن "كان" وأخواتها حروف...وقال ابن هشام في حواشي التسهيل الخلاف في "عسى" و"ليس" شهير وفي "كان" غريب". همع الهوامع ج1/ص46 و47. إلا أن هذا القول "الغريب" في "كان" هو، في رأينا، أخطر قول فيها جاءنا به التراث النحوي العربي، ويمكن أن يكون له شأن كبير في الجدل الدائر، خاصةً لدى المستعربين الغربيين، حول إنكار بعضهم تعبير الفعل العربي عن الزمن وزعمهم بأن دلالته هي في الأساس دلالة هيئة (أو إيعاب).. "لتعريف الهيئة أو الإيعاب انظر الفصل الثاني من هذا القسم، حاشية 23، وكذلك القسم الثالث من هذا البحث."
[14] جاء في حروف المعاني بخصوص "الآن" "الآن الوقت الذي أنت فيه، وهو حد الزمانين: حد الماضي من آخره وحد المستقبل من أوله".
قال الفراء "هو حرف مبني على الألف واللام ولم يخلعا وترك على مذهب الصفة لأنه صفة في المعنى واللفظ فتركوه على مذهب الأداة". حروف المعاني ج1/ص71
[15] مغني اللبيب ج1/ص17
[16] أسرار العربية ج1/ص29
[17] أسرار العربية، ج/ 1 ص 36
[18] المفصل ج1/ص379
[19] كتاب سيبويه ج1/ص12
[20] اللمع ج1/ص7
[21] لأبي القاسم عبد الرحمن بن أسحق الزجاجي المتوفى 340هـ.
[22] أسرار العربية ج1/ص28
[23] الإيعاب، ويسميه آخرون بهيئة الفعل، في ترجمة حرفية عن اللغات الغربية (Aspect/Aspect)، إنما هو القيمة اللازمنية في الفعل والدالة على طريقة حدوثه من حيث الاكتمال أو الاستمرار أو الانقطاع، أو السبق وغير ذلك مما هو غير مرتبط تحديداً بالتأطير الزمني التأريخي الثلاثي اللحظات: ماض، حاضر، مستقبل. فـ "ذهب" تدل على أن الفعل أوعب حدثه، أي استوعبه وأكمله، في الزمن الماضي المنقطع عن الحاضر، و"قد ذهب" تدل على أن ذلك الإيعاب المتحقق في الماضي له نتيجته الماثلة في الحاضر (لحظة التكلم)، أي أن الشخص المعني حصل له فعل الذهاب والنتيجة أنه ليس موجوداً الآن هنا لكي نراه. وما يؤسف له أن استخدام "قد" و"لقد" قد أصبح خبط عشواء في لغتنا الحديثة (تقدم بعض اللهجات العربية، مثل اللهجة اليمنية، استخداماً إيعابياً واضحاً للأداة "قد). أما "يذهب" و "كان يذهب" فكلاهما يدل على استمرار الإيعاب بغض النظر عن كون الأول في الحال الحاضرة والثاني في الماضي. فالفرق بين (كان ذهب/ كان يذهب/ كان ذاهباً / كان سيذهب) إنما هو فرقٌ من باب الإيعاب، وليس من باب الزمن، طالما أن هذه الأشكال المركبة تعبر جميعها عن أحداث وقعت في الماضي. وأصل معنى "أوعب، إيعاباً" هو أكمل، واحتوى، واستغرق، أي استوعب ، وفي لسان العرب: "كلُّ شيء اصْطُلِـم فلـم يبق منه شيء فقد أُوعِبَ"، (انظر اللسان، مادة و ع ب). والإيعاب، أو ما يسميه غيرنا بالهيئة كما أسلفنا، هو مفهوم وحقيقة نحوية مؤسس لها في اللغات السلافية تحديداً، لكنه يمثل أيضاً حقيقة ألسنية قد توجد، من حيث المبدأ، في الفعل في أي لغة، وإنما يكمن الاختلاف في ما إذا كانت مؤسساً لها نحوياً أم لا (كأن يكون هناك تصريف خاص للفعل يمثل مستويات إيعابه). وقد استورد بعض المستعربين (المستشرقين) مفهوم aspect من اللغات السلافية وطبقوه على اللغة العربية قائلين إن الفعل فيها لا يعبر عن الزمن بل عن هيئة الفعل أو إيعابه لحدثه، وأن هناك شكلين إيعابيين فحسب: "فعلَ" و"يفعل". فالغة العربية إذن، في نظرهم، لغة "غير زمنية"، بعكس اللغات في أوروبا الغربية، كالفرنسية والإنجليزية. قد يكون هؤلاء لم يستطيعوا فهم روح التعبير والدلالة في الفعل العربي، وقد يكون بعضهم هدف إلى الانتقاص من قدر العربية، والله أعلم. لكن الثابت لدينا أن النحاة العرب القدماء قد انتبهوا لهذا البعد الإيعابي في دلالة الفعل، وكانوا واعين به؛ لكن طبيعة اللغة العربية التي يفهم الناطقون بها دلالة الزمن "بالسليقة"، من جهة، وكون النحو وعلوم العربية لم توضع من أجل الناطقين بغير العربية، من جهة ثانية، ما كانت لتجعلهم يلتفتون كثيراً إلى دلالة الزمن والإيعاب. لقد تواتر لديهم استخدام مصطلح إيعابي "مائة بالمائة" هو "حكاية الحال"، أي رواية الحدث الواقع في الماضي أو في المستقبل بلسان الحال وكأنه يحدث الآن أمامك؛ كما تحدث سيبويه عن الفرق بين (ما فعل) و(لما يفعل)، من جهة، وبين و(فعل) و(قد فعل) من جهة ثانية، من منطلق الفهم الإيعابي إلى جانب المدلول الزماني. والقارئ لكتابات المستشرقين والمستعربين في هذا الصدد (انظر مثلاً: L’Aspect verbal لديفيد كوهين) يأسف لكونهم استوردوا بضاعة غير معدومة لدينا. واعترافاً منا بسبق النحاة العرب ممن أشار إلى هذا البعد في دلالة الفعل، فقد فضلنا استخدام مصطلح إيعاب، وهو كلمة استخدمها لنفس المعنى أبو القاسم على بن جعفر السعدي، المتوفي عام 515ه، في "كتاب الأفعال". هذا، ونأسف لكون المستعربين، ممن أسهبوا في الكتابة عن "الهيئة" في اللغة العربية (اللا-زمنية في رأيهم)، لم تسعفهم الرصانة العلمية في تحري "الهيئة" في كتابات سيبويه والسعدي وغيرهما، واكتفوا بأن استخلصوا "نحواً" للعربية من لغات أخرى، أو من بنات أفكارهم أو، ربما، من أهوائهم.

[24] يشير المنطق الدلالي إلى أن عبارتي "كان يذهب" و"كان ذهب" لا تحتويان على فعلين/حدثين هما "كينونة كان" زائداً "الذهاب" في "ذهب/ يذهب" كما أنهما لا تشيران إلى اسم هو اسم كان زائداً فاعلاً هو فاعل ذهب/ يذهب؛ بل تشير العبارتان، اللتان ما هما إلا شكلان لفعل واحد، إلى حدث الذهاب نفسه الذي يشير إليه الفعل المجرد ذهب/يذهب، ولم تدخل كان على المضارع البسيط والماضي البسيط لكي تتخذ لها اسماً وخبراً، وإنما جاءت لإضفاء دلالة تزمينية (= زمانية وإيعابية) هي الماضي المتكرر/المستمر في "كان يذهب" والماضي القبلي/الأسبق في "كان ذهب/كان قد ذهب". هذا، وتمثل مقولة بعض النحاة (المبرد والزجاجي) التي أشرنا إليها في الفصل السابق والتي مفادها أن "كان حرف، وليس فعلاً"، تمثل، في نظرنا، إدراكاً سبّاقاً إلى حقيقة "الدور الدلالي الوظيفي-النحوي" لـ "كان"؛ وفي تلك المقولة أكثر من مجرد إرهاص بكون "كان" "فعلاً مساعداً" ليس الغرض منه أن يعبر عن الحدث، شأن الأفعال العادية، بل أن يعبر عن قيمة إضافية، هي الدلالة على الزمن/الإيعاب في الفعل الذي تسايقه.
[25] يقول السيوطي: "وقد خرق إجماعهم [أي قولهم بأن الحرف غير دال في نفسه] الشيخ بهاء الدين بن النحاس فذهب في تعليقه على المقرب إلى أنه [الحرف] يدل على معنى في نفسه، قال: "لأنه إن خوطب به من لا يفهم موضوعه لغة فلا دليل في عدم فهم المعنى على أنه لا معنى له لأنه لو خوطب بالاسم والفعل وهو لا يفهم موضوعهما لغة كان كذلك، وإن خوطب به من يفهمه فإنه يفهم منه معنى عملا بفهمه موضوعه لغة كما إذا خوطب بـ "هل" من يفهم أن موضوعها الاستفهام، وكذا سائر الحروف. قال: "والفرق بينه وبين الاسم والفعل أن المعنى المفهوم منه مع غيره أتم من المفهوم منه حال الإفراد بخلافهما فالمفهوم منهما في التركيب عين المفهوم منهما في الإفراد". همع الهوامع ج1/ص26و27. ولا يخفى أن ما قاله في آخر عبارته: "المفهوم منهما في التركيب عين المفهوم منهما في الإفراد" مناف تماماً ليس فقط للفهم الألسني، بل ينافي أيضاً الفرق الذي قالوا به بين الكلم والكلام. فكلمة "أسد"، مثلاً، لا يمكن أن نفهم منها في التركيب عين الذي نفهمه منها في الإفراد: أي أسد؟ (هل المقصود الحيوان أم دمية أم رجل هذا اسمه؟ وفي أي سياق؟ (هل هجمَ أم قُتِلَ جيءَ به...) وبأي نبرة؟ (الخوف، التحدي، الأسف...).

[26] الخصائص ج2/ص274
[27] هذا ما نفهمه بالمنطق الداخلي (اللغوي/العفوي...) أي بالبداهة والسليقة؛ لكن يمكن بالمنطق الخارجي (العقلي/التأويلي...) أن نفهم من عبارة "عاد كما ذهب" أنه عاد وأنه ذهب أيضاً. انظر مسرد المصطلحات والمفاهيم في الملحق رقم 4 من هذا البحث.
[28] حروف المعاني، ج1/ص 65.
[29] تختلف عبارة "في البيت رجل"، وهي جملة خبرية، عن مقلوبها "رجل في البيت"، الذي قد تكون شبه جملة نعتية: عصفور في اليد خير من عشرة فوق الشجرة = عصفور كائن في اليد.
[30] نقول بضرورة التفريق بين الحال الظرفية في "جاء سريعاً" والحال الشخصية في "جاء مسرعاً".
[31] نشير إلى كون"إن" الابتدائية و"إن" القول تتفقان نحوياً في كسر الهمزة وتختلفان دلالياً ووظيفياً في كون الأولى مؤكدة والثانية رابطة بين القول وجملته. أما "أن" الواقعة بعد ظن فهي مع فتح همزتها تتفق وظيفيا ودلالياً مع "إن" القول المكسورة.
[32] نقصد بالمقام الظل الدلالي للفعل: هل يشير الفعل إلى معناه الحقيقي الموضوعي (يذهب الولد إلى المدرسة)، أم أنه يعبر عن فكرة مجردة (أنْ يذهبََ)، أم يعبر عن شرط (إنْ يذهبْ)، أم توقع (لعله يذهبه) أم رجاء (عسى أن يذهب) أم تمني (ليته يذهبُ)، وغير ذلك مما يمكن أن يصرف الفعل عن دلالته الموضوعية (مقام التقرير). يعرف هذا البعد المحدد لمقام دلالة الفعل في الإنجليزية بـmood وفي الفرنسيية بـ mode . والمقام في الفرنسية مثلاً محدد نحوياً (التقرير، الذاتية، والشرط، والطلب، والإطلاق =indicatif, subjonctif, conditionnel, imperatif, infinitif )، لكن في العربية لا يلبس الفعل ثوباً مقامياً محدداً (بالرغم من محاولات المستعربين إضفاء قيم مقامية على حالات إعراب الفعل المضارع)، بل نفهم المقام من خلال السياق، لذلك لا نميل إلى تحديد عدد المقامات، فأي قيمة دل عليها الفعل غير قيمة التقرير، فهي مقام آخر: شرط، رجاء، تمني، إنكار، الخ. ولما كان "لكل مقام مقال" فقد اقترحنا استخدام كلمة "مقام" للدلالة على هذه القيمة الدلالية للفعل، على أن تكون "المَقْيَمة" هي تخصيص مقام الفعل، أي التصرف في مقامه وتغييره.
.
[33] جاء في المفصل: "وللتعدية أسباب ثلاثة وهي: الهمزة، وتثقيل الحشو، وحرف الجر؛ تتصل ثلاثتها بغير المتعدي فتصيره متعديا وبالمتعدي إلى مفعول واحد فتصيره ذا مفعولين نحو قولك: "أذهبته وفرحته وخرجت به". المفصل ج1/ص341؛ وقال سيبويه: "وإذا قلتَ مررتُ بزيدٍ فإِنَّما أضفتَ المرورَ إلى زيد"، كتاب سيبويه ج1/ص421.
[34] نقصد بالمجاميع الحرفية والظرفية العبارات المكونة من حرف/ظرف + اسم/ظرف (في مقابل: حرف+حرف= حرف مركب)
[35] طرفة: هل يا ترى سيظهر نحويٌ في مقبل الأيام يقول إن جملة الجار والمجرور ("من اللبنانيين") في محل كذا "فاعلٌ عائد"؟
[36] في تركيب تم+المصدر، لا يخفى الغرض من تفادي صيغة المبني للمجهول التي تلتبس في الكتابة غير المشكولة: وُضِع = تم وضعُ.
[37] الخصائص ج2/ص273
[38] أسرار العربية ج1/ص36
[39] انظر مثلاً "منازل الحروف"، و"حروف المعاني"، سبق ذكرهما.
[40] حروف المعاني ج1/ص50

[41] نقصد بمصطح "استعبر/ استعبار/استعبارة" الذي استحدثناه أن نترجم كلمةparaphrase/paraphraser في الفرنسية، وهي جملة شارحة أو مفسرة يقصد بها أن تعكس كيفية أداء كلمة ما لمعناها. فإذا شرحنا، مثلاً، كلمة "استوضح" وقلنا أنها تعني: "استفسر" فإن هذا شرحٌ أو تفسير؛ أما إذا قلنا أنها تعني: "طلبَ توضيحاً"، فهذا هو الاستعبار (أو هذه استعبارة) لكون هذا النوع من الشرح يقصد إلى عكس "الكيفية الصرفية" التي تؤدي بها الكلمة دلالتها.
[42] في معظم اللهحات العربية العامية، تطور حرف الجر "في" من حرف إلى ظرف مكان له وظيفة الفعل الدال على وجود الشيء (في مشكلة؟)، مثلما أن ظرف المكان "هناك/هنالك" حدث له، في الفصحى، تطور مماثل تقريباً إذ صار أداة تقوم مقام الفعل الدال على الوجود، فقولنا "هناك حروف تتبادل أمكنتها" لا نقصد به الإشارة إلى البعيد، الذي يدل عليه هذا الظرف في "انظر هناك"، بل نقصد مجرد الوجود. واستطراداً، من الطريف الإشارة إلى أن هذا الظرف عينه يتجاوز ظرفيته أحياناً ليصبح "ضمير ظرف"، فقولنا "ذهب إلى هناك / ومن هناك عاد إلى بيته" إنما يشير إلى مكان لا نشير إليه بيدنا، بل إلى مكان سبق علم المخاطب به، تماماً مثلما تشير الضمائر هو، هي، هم إلى أسماء سبقت إليها الإشارة.
ومن تطورات هذا الحرف "في" على صعيد اللهجات العامية أنه صار يستخدم كأداة إيعابية يؤتى بها بعد الفعل المضارع لتغيير طريقة إيعاب الفعل لحدثه. يقول السوداني: "هو بيضربني" للتعبير عن ضرب يقع على المضروب إما في لحظة التكلم وإما كواقع اعتيادي متكرر ومتوقع. لكن عندما يقول: "هو بيضرب فيني (في + ني)" فإن حدث الضرب يراد مسرحته كدراما آنية ماثلة للعيان في لحظة التكلم. ويستخدم هذا التركيب "الفعل المضارع+ في" أيضاً لإعادة تمثيل لحظة حدث مضى وجعلها بالتالي بمثابة لحظة آنية ماثلة: "وهو بيدي فيني القروش (= وهو يعطي+ في+ ضمير المفعول+المفعول الثاني أي: في تلك اللحظة...)". فهذا التركيب يدل إما على حال آنية ماثلة أو حال ماضية معاد تمثيلها باستخدام واو الحال. ملاحظة: أشار النحاة إلى هذا الضرب من التعبير الذي يعيد تمثيل لحظة الحدث الماضية وأسموه بـ "حكاية الحال".
[43] "بين" ظرف في تصنيف أكثرية النحاة.
[44] الخصائص ج2/ص306
[45] الخصائص ج2/ص274

[46] الأصول في النحو ج1/ص408
[47] الخصائص ج2/ص308

[48] يقابله في الفرنسية والإنجليزية concomitancy, concomitance على التوالي، وهو قيمة إيعابية تدل على ترافق حدثين في فضاء واحد بغض النظر عن النقطة الزمنية، وقد تنبه لها بعض النحاة العرب القدماء وأسموها "حكاية الحال".
[49] لابد أن نلاحظ أن عبارتي "وهو يأكل" و "فيما هو يأكل" يدل فعلاهما على "حال الأكل" التي يوجد فيها الشخص، وهو قيمة إيعابية يمكن أن ترتبط بأي واحد من الأزمنة الثلاثة، لكن العبارة بكاملها تكون بمثابة إشارة ظرفية محددة لزمن فعل آخر (تحالل): "دخلت عليه فيما هو يأكل".
[50] طالما أن المقام في العربية ليست له حقيقة نحوية مقعدة، وإنما مناطه السياق، فلا شيء يمنع من اعتبار بعض القيم الدلالية مثل التأكيد، بل وحتى الاستفهام، مقامات قائمة بذاتها.
[51] في الفرنسية والإنجليزية يسمونه المطلق (infinitifve/infinitif) لكونه يتجرد من الدلالة على الزمن ويقابله في العربية في هذه الحالة المصدر: أكل.
[52] انظر، مثلاً، بيير لارشيه، نظام الفعل في اللغة العربية، مطابع جامعة بروفانس، إيكس-ان-بروفانسن فرنسا، 2002.
[53] اقترحنا مصطلح "تزمين، ج تزامين" للإشارة إلى الأشكال الفعلية الدالة على الزمن + الإيعاب.
[54] ابن جني، سر صناعة الإعراب، ص 305.
[55] من شواهد لسان العرب، مادة ن ذح.
[56] ينبغي ملاحظة أن "ضرب الرقم القياسي في..." تعد عبارة بالمعنى الضيق، أي جملة غير تامة التركيب والدلالة، لكن حين نحذف منها حرف الجر "ضرب الرقم القياسي" تصبح جملة، (أو عبارة بالمعنى الأكثر اتساعاً)، كما في قولنا: "أما ارتفاع الأسعار، فقد ضرب الرقم القياسي".
[57] لم نتوقف كثيراً إزاء ورود بعض الظروف مثل دون وبين التي تؤدي نفس وظيفة حرف الجر مع الفعل، وذلك لكون التفريق النحوي بين القسمين (مثل الفرق بين "على" و"فوق) ليس بذي خطر من المنظور الدلالي الذي نعتمده في هذا البحث.
[58] في الاستعمالات الحديثة نجد من يقول "اتصل في"، ربما تأثراً بمستوىً لغوي عامي، بدلاً من "اتصل بـ"، و"أجاب على" مكان "أجاب عن"، كخطأ شائع.
[59] لسان العرب، مادة ر ج ع.

[60] سورة القلم، آية 32.
[61] إذا كانت " ر غ ب" هي الباب أو المادة في المعاجم و في اللغة، أو الجذر في الصرف، فإن الدوال الاشتقاقية من نحو "رغّب" والأفعال الحرفية وأفعال العبارة والعبارات الفعلية تمثل دوالاً فرعية من الدال الأساس "رغ ب".
[62] في العامية يقولون "قطع فيه" أي لمزه. وفي هذا تنبيه لوجود ظاهرة أفعال العبارة في اللهجات العامية أيضاً. ففي السودانية يقولون "قام به" أي التهمه فلم يترك منه شيئاً، وأما قولهم"قام بالواجب" فهو فعل عبارة مكونة من : قام + بـ + الواجب = أوفى بحقوق المجاملة والشهامة.
[63] عامية
[64] الترجمة الحرفية لـ Phrasal verbs هي "أفعال العبارة". لكن تقسيمنا للدوال الفعلية، في اللغة العربية، إلى "أفعال حرفية، أفعال عبارة، عبارات فعلية" يجعل الظاهرة الإنجليزية تقابل ظاهرة الأفعال الحرفية لدينا.
[65] Kolln, Martha and Robert Funk. Understanding English Grammar. 5th ed. Boston: Allyn and Bacon, 1998, p. 35.
[66] McArthur, Tom, ed. The Oxford Companion to the English Language. Oxford/New York: Oxford University Press, 1992, P. 73.
[67] Fowler, H. W. The New Fowler’s Modern English Usage. 3rd ed. edited by R. W. Burchfield. Oxford: Clarendon Press, 1996, p. 594.
[68] "There is another kind of composition more frequent in our language than perhaps in any other, from which arises to foreigners the greatest difficulty." Samuel Johnson, Preface, Dictionary of the English Language, 1755.

[69] لا نجد في الفرنسية إلا القليل من العبارات من نحو veiller sur se passer de, faire avec, s’entendre avec,. في المقابل، نجد في هذه اللغة، مثل ما هو الحال كذلك في العربية، الكثير جداً من أفعال العبارة التي تتكون من فعل وحرف واسم، وهي، كما سنرى لا تدخل ضمن الأفعال الحرفية، انظر مثلاً: mettre en place, mettre en scène (المعني الحرفي والترجمة: يضع في المكان = ينشئ، يُقيم؛ يضع على المسرح = يخرج (عملاً مسرحياً).
[70] لسنان العرب (ع.م.د)
[71] مختار الصحاح (ع.م.د)
[72] التحالل (انظر القسم الثاني) هو حدث مرتبط دائماً بحدث آخر في السياق سواء كان مصرحاً به (كان قادماً من السفر عندما رأيته) أو مفهوماً من السياق (كنت مستيقظاً، أي في ذلك الوقت).
[73] ما يؤكد ارتباط "فطر" بالذات الألهية أن حبر الأمة، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لم يكن يدرِ ما معناها: "قال بن عباس رضي الله تعالى عنه كنت لا أدري ما فاطر السماوات حتى أتاني إعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتها". مختار الصحاح ج 1 ص 212. ونستفيد من ذلك أن "فطر" بمعنى "بدأ" هو حالة قبل-سبوقية لم تكن قائمة في العربية السائدة على عهد ابن عباس، فلما وردت "فطر" في القرآن في سياق خلق الله الإنسانَ و السموات الأرض، فقد ارتبطت منذ ذلك الحين بالذات الإلهية ارتباطاً عبر السبوق والرهون.
[74] لعامة الأسماء أحداث أساسية بدهية متعددة (الأشجار: تنمو، تثمر، تظل...)، لكنَّ عدداً قليلاً من الأسماء تقل لديها الأحداث الأساسية البدهية (عراقيل: وضع، أزال) حتى نجد أسماء وحيدة الحدث (القهقرى، الهوينى). والحدث البدهي يرتبط بمسايقه الاسم بغض النظر عن كون الأخير فاعلاً أو مفعولاً أو غير ذلك.
[75] النهاية ج 3 ص 78

[76] ربما يكون هذا التعبير "ضرب الرقم القياسي" جاء إلى العربية عن طريق الترجمة عن اللغات الأوربية: battre le record. وهو يعادل في دلالته "سجل رقماً قياسياً"، لكنه يفترق عنه في كونه أقل تقنيةً من "سجّل" وأكثر "تصويريةً" منه.

هناك تعليق واحد:

  1. Making Money - Work/Tennis: The Ultimate Guide
    The way you 출장안마 would expect from betting on the tennis matches of tennis is https://access777.com/ to bet poormansguidetocasinogambling on the player you casinosites.one like most. But you also need a different หาเงินออนไลน์

    ردحذف